الكاتب: ليوبولدو لوجونيس
ترجمة: علي أرباب
ذاك البستانيُّ الغريب، كان ما يسعى إليه هو ابتكار “زهرة الموت”. تعود محاولاته إلى عشر سنواتٍ مضت، لكنها باءت جميعها بالفشل؛ إذ كان يؤمن أن النبات لا روح له، ولذا لم يُعر انتباهه إلا للصورة، للشكل.
طُعومٌ وهجائن … جرّب كل شيء. في وقتٍ ما شغلت ذهنه فكرة خلق وردة سوداء؛ لكن لم تُسفر أبحاثه في هذا المجال عن شيء. ثم انصبّ اهتمامه على أزهار الآلام وأزهار التوليب، ولم ينتج عن ذلك سوى عيناتٍ شائهة ممسوخة. كان ذلك إلى أن أرشده برناردين دي سان بيير إلى الطريق الصحيح، حين علّمه كيف يمكن للمرء أن يستقي أوجه الشبه بين زهرةٍ وامرأةٍ حبلى، ففي كليهما – كما يُفترض – قابلية التطبّع بصورِ الأشياء المرغوبة من خلال “الرغبة” وحدها.
لكن قبولَ هذه الفرضية الجريئة كان بمثابة التسليم بأن للنبات عقلٌ راقٍ بدرجة تسمح بتلقّي الانطباعات، وتمثُّلها، والاحتفاظ بها؛ بعبارة أخرى؛ قابليةٌ للتأثّر تداني قابلية الحيوانات العليا. وهذا بالضبط ما أفلح البستانيُّ في إثباته.
كان على ثقةٍ من أن محاليق الكروم لا تتحرّك عبثاً، بل تُقدِم عن وعي، خاضعةً لعملية تفكير، يعقبها قرار، ثم لسلسلةٍ من محاولات الاستكشاف. وهكذا، فإن التعرّجات والتغضُّنات الظاهرة، وتنوّع اتجاهات الأغصان وتكيُّفاتها على سطوحٍ مختلفة، كانت بنيّةٍ وقصد من البراعم والسيقان والجذور. في حين يشرف جهازٌ عصبيّ بسيط على هذه الوظائف الغامضة. بُصيلةٌ دماغية وقلبٌ بدائيٌّ في كل نبتة، يقعان على التوالي عند عنق الجذر وساقه. أمّا البذرة، أي النباتُ نفسه مصغّراً ومدّخراً للتناسل، ففيها يُتاح رؤية هذا كلّه بوضوح: فجَنين الجَوزة له شكل القلب، بينما يشبه فِلْقه الدماغ إلى حدٍّ بعيد.
أما الوُريقتان البدائيتان اللتان تزيّنان هذا الجنين فتُذكّراننا بوضوحٍ بالغ بتفرّعي القصبة الهوائية، وتؤديان ذات وظيفتها عند بدء الإنبات.
تكاد التشابهات السطحية أن توحي دائماً بتشابهاتٍ أخرى جوهرية؛ ولذا، فقد يكون للإيحاء أثرٌ أبعد غوراً على هذه الأشكال من الكائنات مما نعتقده في العادة. وقد تنبّأ بهذه الحقيقة بعض كهنة التاريخ الطبيعي، مثل ميشليه وفريس، وهي حقيقةٌ أكّدتها التجربة لاحقاً. ويكفي عالم الحشرات دليلاً على ذلك. فالطيور، على سبيل المثال، تُظهر ألواناً أكثر إشراقاً في البلدان التي تكون سماواتها صافية على الدوام (كما يعلمنا جولد). والقطط البيضاء ذات العيون الزرقاء غالباً ما تكون صمّاء (داروين). ولبعض الأسماك نقوشٌ على زعانف ظهورها تحاكي صورةَ موج البحر (ستريندبرج). أما عبّاد الشمس فيميل بوجهه دائماً نحو الشمس، وينقل بأمانة شكل دائرتها وأشعّتها (سان بيير). كانت هذه هي نقطة البداية.
في (الأورجانون الجديد) يذكر بيكون أن القرفة وغيرها من النباتات العطرية، حين وضعها في أماكن منتنة، تضنُّ بعطرها في عناد، رافضةً أن تنبعث منها روائحها كي لا تختلط بالأبخرة العفنة…
كان ذلك البستانيّ غريب الأطوار، الذي سعيتُ إلى لقائه، ينتوي غرس قوىً جديدة في زهور البنفسج. كان قد اكتشف أنها تتمتع بحساسيةٍ عصبية فائقة، كما يدلّ على ذلك — حسب قوله — الانجذاب أو النفور الحاد الذي يظهره الهستيريّون تجاهها. وقد أراد أن يجعلها تفوح بسُمٍّ قاتل وعديم الرائحة: سُمٌّ زعاف يخاتل الحواس. أما ما كان يهدف إليه بذلك، إن كان ثمة هدفٌ غير التفرّد الغريب، فقد ظلّ لغزًا لم أفهمه أبدًا.
وجدتُ فيه رجلاً مسنّاً بسيط الهيئة، وقد استقبلني بكياسةٍ لا تخلو من تواضع. كان على درايةٍ بطموحاتي، فشرعنا في الحديث مباشرةً عن الموضوع الذي جمعنا.
كان يحب أزهاره حبّاً أبويّاً، مبدياً نحوها هوساً يداني العبادة. أما الفرضيات والوقائع التي ذكرتها في البداية فقد كانت بمثابة مدخلٍ لحوارنا؛ ولما وجد في شخصي رجل شغوفاً بالعلم، شرع يشرح لي الأمر بمزيدٍ من تعمق وتفصيل. وبعد أن أسهب في عرض نظرياته بدقّة لا تُضاهى، دعاني لرؤية أزهار بنفسجه.
“لقد سعيتُ” قال لي بينما نحن نسير، “من خلال تطوّر طبيعتها ذاتها، إلى أن أجعلها تضوع سُمّاً في زفراتها؛ وبرغم أنني لم أحقق هذه الغاية، إلا أن بنفسجاتي ليست أقل من معجزة، ناهيك عن أنني لم أفقد بعدُ أمل الوصول إلى العبير القاتل. ولكن ها قد وصلنا … هاك، تأملّها بنفسك”.
كانت عند نهاية الحديقة، في رُكنٍ صغير مُحاطٍ بنباتاتٍ غريبة. كانت تيجانها تبرز من بين أوراقٍ غير مميزة، وبسبب لونها الأسود ظننتها أول وهلةٍ أزهارَ بانسي.
“بنفسجاتٌ سوداء!” صحتُ مندهشاً.
“نعم، بالفعل؛ كان من المحتّم أن أبدأ باللون، كي تنطبع في الزهرة فكرة الموت. فالأسود، باستثناء بعض خيالاتِ الصينيين، هو اللون الطبيعي للحِداد، فهو لون الليل، أي لون الأسى، وانحسار الحيوية، والنوم — والنوم هو شقيق الموت. أضف إلى ذلك أن هذه الأزهار لا يفوح منها أيّ عبير، وهو ما قصدته تماماً، كمحصلة أخرى لسلسلة من الارتباطات. فاللون الأسود، بالفعل، يعادي العطور. من بين ألفٍ ومئةٍ وخمسٍ وتسعين زهرةً بيضاء، خمسٌ وسبعون منها عطرة، واثنتا عشرة كريهةُ الرائحة؛ بينما من بين ثمانية عشر نوعًا من الزهور السوداء، سبعة عشر منها لا رائحة لها، وواحدةٌ فقط ذات رائحة كريهة. لكن ليست هذه هي المسألة. تكمن الأعجوبة في تفصيلٍ آخر، يقتضي للأسف شرحاً مطولاً…”
“لا تقلق،” أجبته، “فرغبتي في التعلم تفوق لهفة فضولي”.
“ارعني سمعك إذن … كان عليّ أولاً أن أُضفي على أزهاري هيئةً تشجّع على انبعاث أفكار الموت؛ ثم أن أوحِي إليها بتلك الأفكار من خلال سلسلةٍ من الظواهر؛ يلي ذلك أن أضع أجهزتها العصبية في حالةٍ تؤهّلها لتلقّي صورةٍ ما والاحتفاظ بها؛ وأخيراً، أن أستحثّ إفراز السُّمّ بمزج سمومٍ نباتية عديدة في نسغها. والباقي، ستتولّاه الوراثة.
البنفسجاتُ التي تراها تنتمي لسلالةٍ خضعت لهذه المعاملة طيلة عشر سنوات. وقد أجريتُ بعض تهجيناتٍ ضرورية لتفادي التدهور، لكنها اضطرتني إلى إرجاء النجاح النهائي لجهودي بعض الشيء. وأقول “النجاح النهائي”، لأن بنفسجةً سوداء وعديمة الرائحة هي في حد ذاته إنجازٌ لا يُستهان به.
كل هذا لم يمثل صعوبةً كبيرة؛ ويمكن اختزاله إلى سلسلة من تفاعلات يدخلها الكربون كعنصرٍ أساسي ينتج عنه متحوّرٌ من صبغ النيلة. سأُعرض عن الخوض في تفاصيل هذه الأبحاث التي أجريتها في التوليدينات والزيلينات، فهي بالغة التعقيد، وقد تفضي لإفشاء سرّي. غير أن بوسعي أن ألمح لك بنقطةٍ بعينها: مصدر اللون المعروف بالنيليّ هو اتحاد الهيدروجين بالكربون؛ أما الجهد الكيميائي اللاحق لهذه الخطوة فيكمن في تأمين الأوكسجين والنيتروجين بحيث يتكون القلويّ اللازم، والذي يُعدّ النيلي أحد أشكاله، ومن ثمّ التفرّع إلى المشتقات المطلوبة. لقد حقّقت شيئًا يقارب هذا.
كما تعلم، فالكلوروفيل شديد الحساسية؛ وهو ما يفسّر أكثر من نتيجةٍ مدهشة واحدة. إذ حين عرضّتُ مجموعة من اللبلاب لأشعة الشمس، في موضعٍ لا تتسلل إليه أشعة الشمس إلا عبر فتحاتٍ ذات شكل مضلّع، نجحتُ في تعديل شكل ورقة اللبلاب—يكمن كل شيءٍ في الدأب. إلا أن الشكل الهندسي للأوراق كان أقرب لما يُعرف بالمنحنى المقرون. وبالمثل، لا يمكن أن تفوتنا ملاحظة أن الأعشاب الخفيضة في قلب الأدغال تنمو مقلِّدةً زخارف الضوء المتسللة من بين أوراق الشجر أعلاها…
نصل الآن إلى الإجراء الرئيسي. ليس من المتيسر غرس الإيحاء الذي أنشده في أزهاري، لأن أدمغة النباتات تحتها، تحت الأرض: فهي كائناتٌ مقلوبة. لذلك، فقد أوليتُ عنايةً أكبر لتأثير الوسط المحيط باعتباره عنصراً جوهرياً. كانت النغمة الجنائزية الأولى هي تمكّني من إسباغ اللون الأسود على البنفسج. بعد ذلك أحطت أحواض البنفسج بالنباتات التي تراها هنا: الداتورا، والياسمين، والبلادونا. وهكذا خضعت بنفسجاتي لتأثيراتٍ جنائزية كيميائية وفيزيولوجية في آن. فـ”السولانين” سمٌّ مخدّر، كما أن “الآتروبين” و”الهيوسيامين” الموجودَين في الداتورا هما قلوانيان يوسّعان حدقة العين، ويُحدثان ما يُعرف بـ”تضخيم الرؤية”، أي جعل الأشياء تبدو أكبر مما هي عليه. وهكذا كان لديّ عنصر النوم وعنصر الهلوسة، وهما مادة الكابوس؛ وقد قرنتُ هذا الخوف المجرّد بالتأثيرات الخاصة للّون الأسود.
يجدر أن أضيف أنني، لأضاعف أثر الهلاوس، زرعتُ جوارها أيضاً “الهينبين السكران”، وهو نباتٌ سام يحوي جذره “الهيوسيامين” نفسه.”
“وما جدوى ذلك كلّه، والنباتات لا تمتلك أعيناً؟”. سألته.
“آه يا سيدي؛ ليس البصر محصوراً في العيون وحدها”، أجاب البستاني المسنّ. “فالمُسْرنمون يرون بأطراف أصابعهم، وبأخمص أقدامهم. لا تنسَ أننا هنا نتحدث عن قوة الإيحاء”.
كانت شفتاي توشكان أن تفيضا باعتراضاتٍ كثيرة، لكني آثرت الصمت، كي أرى أي مدىً سيبلغه تطور هذه النظرية الغريبة.
“يشبه السولانين والداتورين”، تابع محدثي، “إلى حدٍّ كبير سموم الجثث: أي ‘البوتومين’ و’الليوكومين’، اللذان تفوح منهما روائح الياسمين والورد. فإذا كانت البلادونا والداتورا تمدّانني بتلك المركّبات، فإن عطر الياسمين وعطر الورد يمكن تضخيم عبيرهما، كما لاحظ دكاندول، بزرع البصل حولهما.
لقد بلغت زراعة الورد مراتب متقدمةً الآن، وقد تحققت فيها منجزاتٌ عظيمة بفضل الطُعوم؛ كان عصر شكسبير هو أول عصر تدخل فيها طُعوم الورد إلى إنجلترا…”
ذلك الاستدعاء التاريخي – الذي كان هدفه بجلاء إرضاء ميولي الأدبية – أفلح في أن يؤثر فيّ بالفعل.
“اسمح لي”، قلتُ له، “أن أعرب عن إعجابي بذاكرتك الفتيّة بحق”.
تابع حديثه بابتسامةٍ غائمة: “لأستخلص تأثيراً أقوى في أزهاري، هجّنتُ النباتات الجيفيّة الزنِخة بالنباتات المخدّرة. قليلٌ من اللوف والأوركيد، وبعض الـ”ستابيليا” هنا وهناك، لما فيها من روائح وألوان تُذكّر باللحمٍ المتعفّن. والآن كانت بنفسجاتي – وقد استُثيرت بفعل نزوعها الطبيعي للحب، إذ أن الزهرة عضوٌ تناسلي بالأساس – تستنشق عطر السموم الجيفيّة ممتزجاً برائحة الجِيَف ذاتها، كما أنها عانت التأثير المُنوِّم للعقاقير المخدّرة، مما جعلها قابلة للتنويم المغناطيسي، وكذلك للهلاوس الناجمة عن تضخيم الرؤية الذي تحدثه السموم موسّعة الحدق. وهكذا تبدأ فكرة الموت في الترسّخ فيها بمنتهى الحدّة.
ومع ذلك، فقد ضاعفتُ من أثر الحساسية الفائقة التي تعيشها زهوري بفعل مجاورتها لتلك القوى النباتية، عبر وضع شجيراتٍ من الناردين وأزرار الحقول قربها من حينٍ إلى حين، إذ أن ما فيها من سيانيد يهيّجها بشدة. كما أن غاز الإيثيلين المنبعث من الورد يسهم أيضاً في هذا الأثر.
نحن الآن على وشك الوصول إلى الذروة في تجربتنا… لكن ينبغي أن أحذّرك أولاً: إن التعبير الإنساني “آه!” هو صرخة الطبيعة ذاتها.”
عندما سماع هذا الاستطراد المفاجئ، تبيّن لي جنون الرجل بجلاء؛ لكنه لم يمنحني وقتاً كافياً لأفكر بالأمر، إذ تابع حديثه على الفور:
“إنّ الآهة، في واقع الأمر، هي صيحةُ الآباد. ما يبعث على التأمل هو أن لها حضورها بين الحيوانات. من الكلب، وهو من الفقاريات العليا، إلى عثّة (رأس الموت)، وهي فراشة!
الآهة هي مظهر الألم والخوف. وهذه الحشرة الغريبة بالذات التي ذكرتُها _ والتي يأتي اسمها من أنها تحمل صورة جمجمة على صدرها _ تبعث فينا على الفور ذكرى ذاك العالم القاتم من الكائنات التي يشيع فيها التأوّه. وقد لا يكون من الضروري أن نتذكر البومة القرناء؛ لكن ينبغي أن نذكر ذاك الكائن التائه في الأدغال المنسية: حيوان الكسلان، الذي يبدو كأنه يحمل في جوفه ألم انحطاطه في تلك الـ(آه!) المخصوصة التي يدين لها بأحد أسمائه…
وهكذا، وقد أعياني الإخفاق بعد عشر سنواتٍ من الجهد المتواصل، قررتُ أن أمثّل أمام زهوري مشاهد قاسية، عسى أن أخلّف فيها أثراً أعمق … لكنني لم أوفّق أيضاً؛ إلى أن جاء يوم … لكن اقترب، واحكم بنفسك.”
كان وجهه يكاد يلامس الأزهار السوداء، وبشيء من الإكراه اضطررتُ أن أفعل المثل. حينها وقع الأمر المذهل، خُيّل إليّ أنني أسمع أنيناً خافتاً. وسرعان ما تأكدتُ من ذلك. كانت الأزهار، من خلال تيجانها المعتمة، تضوعُ في زفراتٍ واهنة أنيناً مثل أنين الأطفال.
كان لقوّة الإيحاء أثرٌ لم يكن في الحسبان قط، بات للوجود العابر لهذه الأزهار معنى البكاء ذاته.
بلغ ذهولي أقصاه، عندما باغتتني فجأة فكرةٌ مروّعة. تذكّرتُ ما يُقال في بعض أساطير السحر الأسود، من أن فصيلة الـ”ماندريك” تبكي بدورها إذا سُقيت دم الأطفال. والشكٌّ الذي انتابني أطلق في جسدي رعدةً جعلتني انتصب واقفاً.
“مثل الماندريك”، قلتُ.
“مثل الماندريك”، أجاب، وقد بدا أشدّ شحوباً مني.
لم نلتقِ بعدها مجددًا. لكن قناعتي الراسخة أنه مارقٌ عن كل القوانين، ساحرٌ من زمنٍ آخر، بسمومه وزهوره الآثمة.
تُرى، هل سينجح في خلق بنفسجته القاتلة؟ وهل تقع على عاتقي مسؤولية الكشف عن اسمه الملعون…؟
اترك تعليقاً