فيلم (Train Dreams) مرثية شاعرية لرجل عادي

·

·

, ,

في زمنٍ تُلخِّص فيه السينما العالم في لقطاتٍ متسارعة ومؤثراتٍ صاخبة، يظهر حلم قطار كعمل يسبح عكس التيار؛ فيلم يتأمل في معنى أن يكون الإنسان نقطة هشّة بين تاريخ يتقدّم بلا رحمة وطبيعةٍ تُباد لفتح الطريق. هنا، يتحوّل القطار من رمز للتحديث إلى جرحٍ مفتوح في ذاكرة الأرض، وتغدو حياة “روبرت جرينر” مادة خاماً لفهم علاقة الإنسان بثقله الداخلي، بذنوبه، وبالأرض التي تشكّله. إنّه فيلم عن الحياة بوصفها رحلة عادية، لكنها في عمقها أسطورية، وعن الموت كظلّ يسير بمحاذاة القضبان من دون أن ينقطع.

تتشابك الحياة والموت في ثنائية متداخلة مع “القطار” كرمز يمثل التقدم والدمار في آنٍ واحد. لقد جعلت خطوط السكك الحديدية، التي شقت طريقها عبر الولايات المتحدة في القرن العشرين، العالم أصغر بربطها بين الناس، لكنها في سبيل ذلك غيّرت المشهد الطبيعي بقطع أشجار صمدت لقرون، إنتهى عالم قديم أعماره فوق الستمئة سنة، من أشجار لتقوم محلها جسور خشبية أعمارها قصيرة، لتنهي الحرائق حيوات البشر القصيرة.

استناداً إلى رواية قصيرة للكاتب “دينيس جونسون”، يروي بنتلي وشريكه في الكتابة غريغ كويدار قصة حياة عادية بأسلوب استثنائي؛ قصة رجل آمن بأن وجوده مكبل بالذنب والصدمة. “أحلام القطار” هو دراسة لشخصية من المهد إلى اللحد، وتأمل عميق في جمال كل إنسان وكل شيء، وكيف نترابط مع الأرض ومع أولئك الذين ساروا عليها قبلنا. لقد خلقا فيلماً جميلاً في مظهره وعميقاً في إحساسه، من الأشياء الواضحة تأثيرات تيرينس ماليك في بعض زوايا الكاميرا المنخفضة، وتكوينات مشهد الغروب، والتعليقات الصوتية السردية، والأمجاد المُكتشفة بشكل إلهامي للمشهد الطبيعي الأمريكي.

فبينما يذهب الجمهور غالباً إلى السينما ليأخذهم صناع الأفلام والممثلون في رحلة نحو سيناريوهات تضعهم عادةً داخل منظور شخص يعيش حياة خيالية أو خارقة بشكل ما، إلا أن هناك الكثير مما يمكن اكتسابه من مشاهدة حياة “الرجل العادي” (everyman)، ناهيك عن صراعاته. إن اللحظات العادية في حياة المرء، سواء كانت الحب الأول أو وفاة شخص مقرب، يمكن أن تبدو ملحمية تماماً مثل أي عدد من السيناريوهات المعقدة الموجودة في الأفلام المصممة لإبراز “الإبهار”. إن تتبع حياة رجل عادي في هذا العالم ليس أمراً فريداً يختص به فيلم Train Dreams وحده، لكن الفيلم يقدم نظرة ممتازة لرجل تنطوي حياته على أشكال مختلفة من الدراما، تم التقاطها بحس من “الواقعية الطبيعية” التي تترك أثراً دائماً.

يبدأ الفيلم بصوتان الأول منهما قبل أن يبدأ الفيلم حتى. إنه صوت الغابة ذاتها. بينما تمر تترات البداية، تسمع حفيف الرياح عبر الأشجار، وتغريد الطيور، وقرع نقار الخشب المنتظم. ثم يبدأ صوت “ويل باتون” بنبرته الخشبية العميقة المفعمة بالحميمية، متحدثاً بصوت منخفض. إنه يلعب دور راوٍ مجهول الاسم، ربما هو الإله. يقول: “كانت هناك ذات مرة ممرات إلى العالم القديم، مسالك غريبة، ودروب مخفية. كنت تنعطف عند زاوية لتجد نفسك فجأة وجهاً لوجه أمام السر العظيم، أساس كل الأشياء”.

تُروى معظم قصته عبر السرد الصوتي الذي يتميز بنبرة مهدئة وقوية في آن واحد. إنه يتحدث بلسان روبرت الصامت غالباً، ويخبرنا عن لقاءات تكوينية أثناء العمل، بما في ذلك لحظة مفصلية قُتل فيها مهاجر صيني. يظل روبرت يتساءل طوال حياته عما إذا كان تقاعسه في تلك اللحظة هو ما مهد الطريق للمآسي التي ألمّت به لاحقاً، في حوار أخر نلمس كوابيس أمريكا التي بنيت من غابات دمرت، من حروب خاضتها،  عندما كان هو وغرينير يحاولان النوم في خيام متجاورة، والتي قيل لنا إنها تعود إلى الحرب الأهلية والحملات ضد السكان الأصليين. يسأل غرينير: “آرن، هل تظن… هل تظن أن الأشياء السيئة التي نفعلها تلاحقنا طوال حياتنا؟”

تبدو هذه المشاهد الافتتاحية وكأنها ذكريات، حالمة وملموسة في نفس الوقت. يكاد المرء يشم رائحة النار التي تدفئ العمال ويشعر برطوبة الجو بينما يخبرنا راوي القصة (باتون) عن الرجال الذين التقاهم روبرت على السكك الحديدية، بمن فيهم دجال مقتول وخبير متفجرات تحولت بدراما فائقة من دور هامشي وصغير إلى شخصية محورية، مانحاً إياها عقوداً من العمق والواقعية في بضعة مشاهد قصيرة. إنه أداء قصير بشكل لا يصدق، لكنه بطريقة ما يُعد واحداً من أفضل أدوار ميسي، حيث يساهم في “تثبيت” الفيلم ومنحه واقعية عندما يوشك أن يصبح هلامياً بلا ملامح.

في إحدى استراحاته من العمل في السكك الحديدية، يلتقي روبرت بـ “جلاديس” (فيليسيتي جونز) ويقع في حب عميق. تستحضر المشاهد الأولى لهما جمالية المخرج تيرينس ماليك، الذي يبدو كأكبر مصدر إلهام هنا، وتحديداً فيلمه “أيام الجنة” (Days of Heaven)؛ حيث نرى شخصيتين أمام خلفية “ساعة السحر” (وقت الغروب)، تتخيلان الحياة المشتركة التي تنتظرهما في عالم يفيض بالجمال.

يمكن وصف مشهد تخطيطهما للمنزل الذي يعتزمان بناءه على ضفة النهر باستخدام الحجارة بأن هو جوهرة سينمائية؛ شابان المستقبل أمامهما. ينتهي بهما المطاف ببناء ذلك المنزل وإنجاب ابنة، قبل أن تحطم مأساة لا توصف أحلام روبرت.

يوجد توظيف عظيم للموسيقى التصويرية الآسرة لتضفي الجو الحالم و الذكرى بعداً محسوس. ولكن السبب الذي يجعله أحد أفضل أفلام العام هو براعته في الموازنة الدقيقة بين الواقع القاسي والشعر الحزين.

في إحدى اللقطات الأولى للفيلم، نرى زوجاً من الأحذية مثبتاً بمسامير على شجرة، وقد أنهكه الطقس والزمن لما يبدو وكأنه أجيال. إنه ذلك النوع من الأشياء التي تلمحها في الغابة وربما تتوقف لتتأمل القصة وراءها. كيف وصلت إلى هنا؟ لمن كانت؟ وما هي قصته؟ إنه مشهد شاعري واعتيادي في آن واحد، مُنتج لعاملٍ أُضفيت عليه هالة أسطورية، وهي ثنائية أخرى تنسج طريقها عبر الفيلم بأكمله: الحياة عادية؛ والحياة جميلة.

يعد هذا فيلماً تأملياً (introspective) يُروى بالكامل تقريباً من منظور شخصية روبرت التي يلعبها إدجرتون. ويشمل ذلك استحضار صور أولئك الذين أثروا فيه بطريقة ما ولكنهم رحلوا الآن.

بمدة عرض تبلغ حوالي 100 دقيقة، هذا هو نوع الأفلام الذي يقدم ما يكفي لنفهم رحلة روبرت عبر الحياة دون إطالة مملة أو مبالغة في شرح الفكرة. توجد تفرعات جانبية إلى حد ما، ولكن بالكاد يضيع أي وقت في فهم المجالات التي كان لها تأثير كبير. بدلاً من ذلك، نحصل على إحساس بالحب والفقد الذي يمر به، مع وجود لحظات لتقدير الأفراد الذين تركوا بصمة لديه، فمن الإقتباسات الهائلة هناك جملة مذهلة في الفيلم تقولها شخصية تلتقي بروبرت في أواخر حياته “الشجرة الميتة لا تقل أهمية عن الحية.” بطريقة أخرى نحن مرتبطون ببعضنا وبالأرض كقضبان القطار التي تمتد عبر القلب، تدفعنا للأمام بينما تترك علامات وآثاراً تستغرق أجيالاً لتتلاشى/ نظرية النسيج الكوني للكون. أما إذا كنا محظوظين، فسيكون هناك شخص ما ليروي قصتنا، أو ليتذكرنا في قصته الخاصة.

ولمرة أخيرة، نحن لدينا فيلم يخبرنا – بلطف ولكن بوضوح – أين بدأت تلك القصة ولماذا، ويضع داخل تلك الحكاية أمثولة ذات قوة عاطفية صارخة، حيث الأصوات التي تتحدث ليست فقط أصوات البشر. ليتنا استمعنا فقط، فيلم أشبه بمرثية أغنية حزينة “بلوز” للرجل الكادح، تبدأ أحداثها في نهايات القرن التاسع عشر، حين كانت الحضارة تحاول جاهدةً ترتيب أوراقها، وتتوقف قُبيل هبوط الإنسان على القمر عام 1969،


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *