فيلم (Minari) الحُلم الأميركي المُزيف.

·

·

, ,

الميناري ينمو لوحده… لا يحتاج إلى رعاية. قوي مثل الأعشاب البرية.!

من اللحظات الافتتاحية لفيلم “ميناري” للمخرج لي إسحاق تشونغ، يُسبِك العمل سِحراً سينمائياً في تصوير الإنسان وهو يحاول الحفاظ على انسجامه مع العالم الطبيعي. بينما تجتاز عائلةٌ طرقات الريف الأمريكي المُخضر، تبدو الأرض وكأنها تُناجي الشخصيات، ومن خلالهم، تُناجينا نحن، نحو الحُلمُ الأميركي .!

هذه قصة هجرة تقليدية، لكن بتفاصيل جديدة محددة وفريدة. عائلة كورية-أمريكية بقيادة الأب جاكوب  والأم مونيكا وطفليهما، هاجرت من كوريا في ثمانينيات القرن الماضي، وعملت في كاليفورنيا في فرز صغار الدجاج حسب الجنس. الآن، تنتقل العائلة إلى بلدة صغيرة في أركنساس لزراعة مزرعة مساحتها 50 فداناً.

تتجلى رمزية نبتة الميناري في الفيلم كرمز للصمود. رغم أنها تُعتبر نوعًا غازيًا يضر بالبيئة المحيطة، إلا أن قرار العائلة بالبقاء في النهاية يعكس هذا المعنى.

الصراع الثقافي هو المحور الجامع هنا، لكنه ليس الوحيد. تشونغ، الذي انتظر حتى صنع عدة أفلام ناجحة قبل أن يُخرج هذه الدراما السيرة الذاتية، يعرف تماماً القصة التي يريد سردها، وكيفية سردها. تشتبك مونيكا وجاكوب حول أهدافهما المشتركة كزوجين وطموحاتهما لأطفالهما. توتر الاندماج مقابل الاستقلالية يخيم على كل حوار، سواء كان حميمياً خاصاً أو مرتبطاً بالمجتمع الأوسع الذي يحاولان التعرف عليه بتوجس.

من الواضح أن جاكوب آمن بنسخة ما من “الحلم الأمريكي”، (صورة نمطية للمزارع الأمريكي الأبيض من منتصف القرن العشرين): بقبعة العمل، والكلام المقتضب، وعلبة السجائر في جيب الصدر، وخطوات بطيئة تُذكّر برعاة البقر. أما مونيكا فتبدو أكثر تمزقاً؛ التفاعل بينهما يوحي بأنها من طبقة اجتماعية أعلى، وأكثر ارتياحاً في المدن. مع تقدم الأحداث، نتساءل إن كانت تندم على الهجرة أصلاً. رغم تصميمها، يبقى الطريق وعِراً لا يلين.

الطقوس اليومية تكتسب حيوية جديدة عندما تُؤطَر بزاوية مختلفة، وهذا ما يفعله تشونغ في فيلمه. النقاش بين الزوجين حول البقاء في عزلة نسبية أو الانتقال إلى مجتمع كوري أكبر، هو حديث قد تخوضه أي عائلة مهاجرة، لكنه هنا مليء بتحديات ثانوية: أي كنيسة نختار؟ هل نذهب أساساً؟ إلى أي مدى ننفتح على صداقات مع من لا يشاركوننا ثقافتنا؟ أسئلة لا يطرحها من نشأ في بيئة أحادية الثقافة.

“لطالما كان الحلم الأمريكي لعبةَ محصلتها صفر… نجاحُ أحدهم يعني فشلَ آخر.” توني موريسون (روائية حاصلة على نوبل).

يخفف الفيلم حدة التوتر معتمداً بشكل مفرط على لقطات الطبيعة الشاعرية وموسيقى تأملية تُعزف على بيانو قديم، مؤجلاً بعض الصراعات حين يرغب المشاهد في تعميقها. لكن قبضة تشونغ كراوٍ تبقى متينة. كل لحظة وحوار يحملان صدقاً – وأفضل المشاهد تُلبس التعقيد والتناقض اللذين يُظهران أن التفاعل البشري أعقد من أي نصائح طفولية. مثل المشهد الذي يُهان فيه ديفيد الصغير عنصرياً من طفل أبيض، ثم يُدعى فوراً إلى نوم في منزله، وهو ما سيتعرف عليه كل من مر بتجربة مماثلة. الجميع هنا ما زالوا يتعلمون “الطريقة الصحيحة” للتصرف، حتى الكبار.

الشخصيات الثانوية مرسومة بوضوح. الممثل المخضرم ويل باتون يقدم أداءً رائعاً كمزارع مسيحي متطرف يحمل صليباً خشبياً على ظهره في مشهد لا يُنسى. لكن الأداء الأبرز هو ليون يو-جونغ في دور الجدة سونجا، التي تُستقدَم من كوريا لمساعدة العائلة. امرأة مفعمة بالحيوية، متحررة من قيود التقاليد، تتصرف وفق أخلاقياتها الخاصة حتى لو أثارت عواقب جسيمة (مثل سرقتها ورقة مالية من تبرعات الكنيسة!).

تشونغ يُبدع في تصوير اللحظات التي يتصرف فيها الناس وفق بوصلتهم الداخلية، بطرق قد تبدو غريبة للآخرين. ولا يمكن إلا أن ننحني لفهمه العميق للسلوك البشري، ولرموزه التي تُزرع في الأشياء العادية. “ميناري” فيلم استثنائي يلامس الجمال في قلب القسوة، ويُذكّرنا بأن الحكايات الأكثر خصوصية هي الأكثر عالمية.

“الحلم الأمريكي؟ إنه ذلك الوعد بأنك لو عملتَ بجدٍ، فستنجح. لكنَّ الوعدَ كُذِب… لأن النظامَ نفسه يُقصي مَن لا يملكون نقطةَ بدء.”

تا-نهيسي كوتس (كاتب وناشط).


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *