فيلم عظام الغربان (Bones of crows)، هل يمكن للسينما أن تشفي جراح الإبادة الثقافية؟

·

·

, ,

عندما كانت والدتي تحتضر، كان كاهن كاثوليكي يقوم بجولاته في المستشفى وسأل عما إذا كان بإمكانه الدخول ومنحها الطقوس الأخيرة. تظاهرت أمي بالنوم وأومأت لي برأسها، وهو ما كان يعني: “اجعليه يرحل”.

أخبرته بأدب أن والدتي تستريح. جاء في اليوم التالي، وتكرر الطقس ذاته. وفي اليوم الذي يليه. كانت تفتح عينيها عندما يدير ظهره، وباب المستشفى مفتوح؛ كنا نراقبه وهو يشق طريقه في ممر المستشفى الطويل. بدلته السوداء. حذاؤه الأسود على الأرض، معطفه الأسود يلتقط الحركة. كان يتوقف عند أبواب غرف المستشفى في رحلته، يطل برأسه حيثما استطاع. مبتسمًا.

في يومها الأخير، كنا نراقبه كما اعتدنا. نظرت والدتي إليه وهو يشق طريقه ثم إليّ — وابتسمت هي الأخرى. “إنهم مثل الغربان… يحاولون دائمًا الانقضاض عليك عندما تكون ضعيفًا”.

فيلم “Bones of Crows”عظام الغربان، هو فيلم عن نظام المدارس الداخلية الإبادية كما يُروى من منظور امرأة من قبيلة الكري تدعى ألين سبيرز تُؤخذ هي وأشقاؤها الثلاثة إلى مدرسة داخلية في مانيتوبا وهم أطفال في ثلاثينيات القرن الماضي، ويُظهر الفيلم آثار هذا النظام على مدار حياتها الطويلة. بدءًا من الاعتداءات الجنسية والجسدية التي عانت منها على أيدي أولئك الذين كان من المفترض أن يعتنوا بها، وصولًا إلى مشاكل الصحة العقلية التي أحاطت بأفراد عائلتها أثناء نشأتهم، واللامبالاة من أولئك الذين لا يبدون على استعداد للاستماع.

ويُصنف كدراما نفسية قاتمة، تُروى في أجزاء فردية تتكامل معًا. إنه مرتبط في سرده، بشكل أصيل، بـ “ذاكرة الدم” — وهي فكرة أننا نعيش في الحاضر ولكننا نتأثر بحياة وصدمات ليس فقط معاركنا الشخصية من أجل البقاء، بل معارك أسلافنا أيضًا. في فيلم عظام الغربان نصل إلى فهم الذاكرة ليس كمجرد استرجاع للماضي، بل كرد فعل عاطفي يثيره حدث في الحاضر.

في الماضي عمد نظام المدارس الداخلية في كندا إلى إبادة جماعية ثقافية، وهو نظام أدارته الكنيسة. الأمر قاطع ولا يقبل الجدال، لقد كانت إبادة جماعية ثقافية. لقد كانت محاولة للقضاء على العديد من ثقافات السكان الأصليين عبر قتل الثقافة في نفوس الأطفال، واستبدالها بالقيم المسيحية التي كانت تُلقَّن عبر أساليب مسيئة وصعبة للغاية بالنسبة لأطفال. وقد قدم رئيس الوزراء السابق ستيفن هاربر اعتذارًا في عام 2008، وكذلك فعل رئيس الوزراء جاستن ترودو في عام 2017 عن دور الأمة في هذه الإبادة الجماعية الثقافية. ووصفها البابا فرنسيس بأنها إبادة جماعية في يوليو من العام الماضي، وفي أكتوبر، أقر مجلس العموم تشريعًا يعترف بها رسميًا كإبادة جماعية.

يدور الفيلم حول ما يحدث عندما تحاول أمة ارتكاب إبادة جماعية ثقافية. إنه يتناول ذلك بتفصيل دقيق، ولا يتردد في عرض الحقائق. قد تكون مشاهدته تجربة قاسية ومؤلمة للكثيرين. يصور الفيلم الإدمان، والاكتئاب، والانتحار، والانتهاكات الممنهجة، وأكثر من ذلك بكثير. ولكن في نهاية المطاف، يحمل الفيلم بصيصًا من الأمل. يؤمن هذا الفيلم، كما آمن سام كوك، بأن التغيير قادم لا محالة.

إنها دراما نفسية سوداء ومؤثرة تتمحور حول أداء مذهل حقًا من (دوف). فهي تُظهر كل اللحظات السعيدة في حياتها بتوتر حلو ومر يغلي تحت السطح في كل شيء، وتتألق في اللحظات المتوترة حقًا. من خلال اللحظات التي تظهر فيها صلابة فولاذية، والأوقات التي كادت فيها ألين أن تنهار، تهيمن دوف على الشاشة وتستحوذ على انتباه الجمهور. بدون أداء جذاب وساحر وجميل مثل أدائها، كان من الممكن أن ينهار هذا الفيلم بسهولة.

هل يمكن للسينما أن تشفي جراح الإبادة الثقافية؟

يبدو أن الفيلم يهدف إلى تحقيق غايتين في آن واحد. أولاً، يريد خلق تمثيل للسكان الأصليين على الشاشة من أجل الناجين من نظام المدارس الداخلية. بالنسبة للجمهور من السكان الأصليين، يمكن للناس أن يتعرفوا على تجربتهم الخاصة أو تجربة أسلافهم. ولكن بالنسبة للجمهور من غير السكان الأصليين، فإن الفيلم يُعلّم أيضًا عن هذه التجربة. الكثيرون منا من غير السكان الأصليين لا يعرفون أهوال نظام المدارس الداخلية، والكثير منا لا يعطي الأولوية للتعلم عنه.

ومع ذلك، يطرح السؤال: هل يمكن لهذا الفيلم أن يجد صدى لدى الكثير من الجماهير من غير السكان الأصليين؟ بالنسبة للعديد من الأشخاص الذين يشاهدونه، قد يكون غير مريح للغاية.

هل يماثل نظام المحو الثقافي ما إتبعته المؤسسات التعليمية الرسمية في السودان تجاه مواطنين محليين، عبر حرمانهم من ممارسة لغتهم المحلية، عبر تلقينهم النظام العروبي الاسلامي، هل يماثل المحو الثقافي ما تقوم به المؤسسات غير الرسمية مثل الخلاوي، بإفتراض أن مؤسسات تسعى لفرض نمط ثقافي لا يتحمل في طياته أنماط الثقافة المحلية.

 الفيلم صريح في عرضه لكل جزء من أجزاء نظام الإبادة، وقد يشعر الكثيرون أن هذا مبالغ فيه. قد يشاهد البعض هذا الفيلم ولا يرون فيه سوى الصدمة، وليس المعنى الكامن وراءها. هل يمكن لفيلم كهذا أن يغير رأي شخص ما بالفعل، أم يمكن أن يكون له تأثير معاكس؟ هل يمكن لشخص أن يرى الإساءة التي يعاني منها الأطفال على أيدي الراهبات في هذا الفيلم، فيتأذى لدرجة أنه يرفض التفاعل معه؟

هذه مشكلة يواجهها الكثير من أصحاب الامتيازات، لأنهم لم يمروا بأي صدمة بأنفسهم (على الأقل ليس بهذا المستوى). من غير المريح الحديث عن الأمر، والأكثر صعوبة هو مشاهدته يتكشف أمامك. يمكن لفيلم مثل هذا أن يضيف لحظات إيجابية لموازنة الصدمة، ولكن هل سيقلل ذلك من التأثير؟

ربما لا يكون عرض الصدمة هو السبيل الأمثل. ربما في المستقبل نتمنى أن نشاهد أفلاماً أكثر جرأة واستعدادًا في السودان كمثال، لنأخذ على سبيل المثال ما تم من محو ثقافي لمجموعات إثنية، ولإجراء حوار حول كيف يمكن أن تساعد المزيد ممن لم يتعرض للإبادة الثقافية على الشعور بالراحة في خوض ذلك الحوار. ولكن أمر كهذا، التخلي عن تصوير الصدمة التي تحملها الكثيرون، يبدو أمرًا خاطئًا. في أحسن الأحوال، هو استخفاف بتجربتهم، وفي أسوأها يمكن اعتباره شكلاً آخر من أشكال الإبادة الجماعية الثقافية. أن ننسى التجربة يعني أننا ننسى الدروس المستفادة، وقد نكررها مرة أخرى. وهو ما لا يجب أن يحدث، كما يناشدنا فيلم “Bones of Crows”.

المصادر:


REVIEW: Bones of Crows is the beginning of a hard, but necessary conversation : By James Mackin

Bones of Crows is a striking cinematic response to Canada’s ‘reign of terror against Indigenous people’ : By Marie Clements


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *