في عَالَمِ ماكوتو شينكاي السّينمائي، تَتَجَسَّدُ مَوْضوعةُ “البُعْدِ/ الفُراق” كخَيطٍ نَديٍّ يَنسَابُ بَينَ أَعْمَالِهِ، مُحَاوِرًا شَغَفَ المَراهِقِينَ وَهَشَاشَةَ مَشَاعِرِهِمْ المُثْقَلَةِ بِهُمومِ اليَوْمِيِّ. لَكِنَّ “حَدِيقَةَ الكَلِمَاتِ” يَخْرُجُ عَنِ المَألُوفِ لِيَغُوصَ في عَلَاقَةٍ مُثِيرَةٍ لِلْجَدَلِ بَينَ تِلْمِيذٍ وَمُعَلِّمَةٍ، مُحَطِّمًا تابُوهَاتِ المُجْتَمَعِ اليَابَانِيِّ الذِي يَنْظُرُ بِعُيُونٍ قَاسِيَةٍ إِلَى “الْمنْعَزِلِينَ”، تَتَحَوَّلُ الشَّخْصِيَّاتُ إِلَى مَرَايَا تُعَكِّسُ تَنَاقُضَاتِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ بِدُونِ تَبرِيرٍ أَوْ تَجمِيلٍ، بَلْ بِصِدْقٍ يُجَسِّدُ الْهَشَاشَةَ وَالْضَجَر اليَوْمِيَّ.
تَكمُن براعةَ شينكاي في هَذَا العَمَلِ بِتَوَظِيفِ الصَّمْتِ كَبَطَلٍ خَفِيٍّ/ فَنُّ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ كَلِمَاتٍ حَيْثُ يَتَحَاشَى الإِفْصَاحَ المُبَاشِرَ عَنِ المَشَاعِرِ، مُتَّكِئًا عَلَى اللَّحْظَاتِ الْوَامِضَةِ وَالإِيمَاءَاتِ الدَّقِيقَةِ. فَالْحِوَارُ الْقَلِيلُ لَيْسَ نَقْصًا، بَلْ هُوَ مِفْتَاحٌ لِعَالَمٍ مِنَ الْإِشَارَاتِ الثَّقَافِيَّةِ اليَابَانِيَّةِ الْعَسِيرَةِ: مِثل َالْتِفَاتَاتُ الْوَجْهِ الَّتِي تَنْطِقُ بِمَا لَمْ تُنْطِقْ بِهِ الشِّفَاهُ. حَتَّى الْمُشَاهِدُ الْجَرِيئَةُ فِي الْمُوَاجَهَةِ النِّهَائِيَّةِ، الَّتِي تَتَفَجَّرُ بِعُنْفٍ عَاطِفِيٍّ، لَمْ تَكُنْ صَدْمَةً عَشْوَائية، بَلْ مُحصلة للِاحْتِضَارِ الدَّاخِلِيِّ.
تَحْوِلتِ الأَحْذِيَةِ إِلَى رَمْزٍ مُعَبِّرٍ عَنِ الْهَوِيَّةِ وَالصِّرَاعِ مَعَ المُجْتَمَعِ. فَالتِّلْمِيذُ، الطَّامِحُ إِلَى صِنَاعَةِ الأَحْذِيَةِ، يَخِيطُ حِذَاءً لِامْرَأَةٍ تَهْرُبُ مِنْ فَضَاءَاتِ الْعَمَلِ المُقَيَّدَةِ إِلَى حَدِيقَةِ السِّرِّ. فِي الثَّقَافَةِ الآسِيَوِيَّةِ، تُمَثِّلُ الأَحْذِيَةُ حَدًّا فَاصِلًا بَينَ العَالَمِ الخَاصِّ (حَيْثُ تَخلَعُهَا عِنْدَ الْبَابِ) وَالعَامِّ (حَيْثُ تَرْتَدِيهَا لِتَكُونَ جُزْءًا مِنَ الآلَةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ). فتَصِيرُ هَدِيَّةُ الْحِذَاءِ وَسِيلَةً لِلتَّعَافِي، رَمْزًا لِقُدْرَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى إصْلَاحِ عَلَاقَتِهِ بِالْعَالَمِ الْخَارِجِيِّ.

تَتَحَوَّلُ حَدِيقَةُ (شينجوكو) الْحَقِيقِيَّةُ فِي طُوكْيُو إِلَى شَخْصِيَّةٍ صَامِتَةٍ فِي الفِيلمِ، حَيْثُ تُرْسَمُ بِدِقَّةٍ تَصِلُ إِلَى حَدِّ التَّمَاهِي مَعَ الْوَاقِعِ. كُلُّ وَرَقَةٍ، وَكُلُّ قَطْرَةِ مَطَرٍ، وَكُلُّ انْعِكَاسٍ عَلَى بِرْكَةٍ، تُصْبِحُ لُغَةً تُعَبِّرُ عَمَّا تَعَجَزُ عَنْهُ الشَّخْصِيَّاتُ. فَالْحَدِيقَةُ لَيْسَتْ مَكَانًا فَحَسْبُ، بَلْ هِيَ “جَنَّةُ الكَلِمَاتِ” الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِلُغَةِ الْأَحَاسِيسِ، حَيْثُ يَتَحَاشَى الْبَطَلَانِ مُوَاجَهَةَ الْعَالَمِ الْخَارِجِيِّ.
رُغْمَ أَنَّ الفِيلمَ يَتَكَئُ عَلَى زَمَنٍ قَصِيرٍ (46 دَقِيقَةً)، إِلَّا أَنَّهُ يَنْجَحُ فِي خَلْقِ عَالَمٍ مُكْتَمِلِ الْأَرْكَانِ. لَكِنَّ هَذَا الْإِخْتصَارَ يَتْرُكُ أَحْيَانًا شُعُورًا بِالسَّطْحِيَّةِ فِي تَطَوُّرِ الْعَلَاقَةِ، خَاصَّةً فِي الْمُشْهَدِ الْأَخِيرِ الَّذِي يَخْرُجُ عَنْ نَسَقِ شينكاي الْهَادِئِ، مُتَّجِهًا نَحْوَ صَرْخَةٍ عَاطِفِيَّةٍ قَدْ تُفْقِدُ الْعَمَلَ بَعْضَ رُوحِهِ الْغَامِضَةِ. فَالنِّهَايَةُ، رُغْمَ جُرْأَتِهَا، لَمْ تَبْلُغْ مَبْلَغَ الْقُوَّةِ الْعَاطِفِيَّةِ لِأَعْمَالٍ مِثْلَ “5 سَنْتِيمِترَاتٍ فِي الثَّانِيَةِ”.
يَتَمَيّزُ الفِيلمُ بِإِيقَاعٍ سَمْعِيٍّ هَادِئٍ، حَيْثُ تَتَدَاخَلُ أَصْوَاتُ الْمَطَرِ بِعُزُوفَاتِ بِيَانُو شَجِيَّةٍ، مُشَكِّلَةً انْسِجَامًا كَامِلًا مَعَ الصُّوَرِ الْبَصَرِيَّةِ الْمُبْهِرَةِ. كُلُّ إِطَارٍ فِي الفِيلمِ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ لَوْحَةً فَنِّيَّةً مُسْتَقِلَّةً، لَكِنَّهُ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ جُزْءٌ مِنْ سَرْدٍ أَكْبَرَ.

هل يبدو هذا المنظر حقيقياً، لأنه يبدو لي كذلك.!
رُغْمَ أَنَّ “حَدِيقَةَ الْكَلِمَاتِ” قَدْ لَا يَبْقَى فِي الذَّاكِرَةِ كَقِصَّةٍ عَظِيمَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَظَلُّ شَاهِدًا عَلَى بَرَاعَةِ شينكاي فِي تَحْوِيلِ الْجَمَالِ البَصَرِيِّ إِلَى لُغَةٍ تُعَبِّرُ عَنْ أَعْمَاقِ الْكَونِ الإِنْسَانِيِّ. فَهَذَا العَمَلُ لَيْسَ مُجَرَّدَ فِيلمٍ، بَلْ رِسَالَةٌ إِلَى الْعَينِ أَنْ تَرَى، وَإِلَى الْقَلْبِ أَنْ يَشْعُرَ، وَإِلَى الرُّوحِ أَنْ تَسْأَلَ: أَيْنَ نَجِدُ حَدِيقَتَنَا الْخَاصَّةَ حِينَ تَهْطِلُ أَمْطَارُ الضَجر؟
اترك تعليقاً