فيلمُ العدوEnemy (2013) – إنسَانٌ يُحَارِبُ نَفْسَهُ، وَيَنتَصِرُ لَهَا !

·

·

, ,

في عَالَمِ السّينما الَّذِي يَسُودُهُ التَّكْرارُ، يَبْرُزُ دِينِيس ڤيلينيف كَصَانِعِ أَفْلَامٍ لَا يُشْبِهُ أَحَدًا. لَيْسَ مُجَرَّدَ مُخْتَرِعٍ لِحَبَكَاتٍ مُثِيرَةٍ، وَلَا مُنَفِّذٍ لِسِينَارْيُوهَاتٍ تِجَارِيَّةٍ، بَلْ فَنَّانٌ يَنْحَتُ أَسْئِلَةَ الْوُجُودِ بِمِاسَحَةٍ مِنْ غُموضٍ وَإِزْعَاجٍ. في فيلمِهِ “العدو” (2013)، الَّذِي يُعَدُّ وَحْيَهُ الأَكْثَرُ إِثَارَةً لِلْجَدَلِ، يُطْلِقُ ڤيلينيفُ رِصَاصَةَ شَكٍّ نَحْوَ فِكْرَةِ الْهُوِيَّةِ الْفَرِيدَةِ، مُسْتَعِينًا بِوُجُودٍ مُزْدَوَجٍ لِجَيك جيلينهال، وَعَالَمٍ بَصَرِيٍّ يَقْتَرِبُ مِنْ كَابُوسٍ.

هل أحضر دِينِيس ڤيلينيف جوزيه سارماغو – مؤلف رواية الأخر مثلي، التي أُقتُبِس منها العملَ الفني، ربما.!

تتأسس أعمال ساراماغو الروائية على فرضيات سورياليّة تنساب من مخيّلة جامحة، تُقلب الواقع رأسًا على عقب عبر افتراضات مدهشة: ففي روايته “القرين/ الأخر مثلي”، نجِدهُ ينسج عوالمه الفريدة؛ فبطل الرواية أستاذ تاريخ يكتشف بالصدفة وجودَ شبيهه التامّ في فيلم سينمائي منسيّ، لتنطلق رحلة وجودية تبحث في ثنائية الهُوية وماهية الذات.

أنا أعتقد أنّ من يقرأ رواية أكثر حرّية ممن يشاهد فيلمًا. – ماركيز


يَجِدُ آدَم بيل (جيلينهال)، الأُسْتَاذُ الْهَادِئُ الَّذِي يَعِيشُ حَيَاةً رَتِيبَةً بَيْنَ قَوَاعِدِ التَّدْرِيسِ وَصَمْتِ الْبَيْتِ، نَفْسَهُ مُجَبَّرًا عَلَى مُوَاجَهَةِ انْعِكَاسِهِ فِي مُرْآةٍ غَرِيبَةٍ: أنطوني كلير، مُمَثِّلٌ فَاشِلٌ يَحْمِلُ وَجْهَهُ بِتَفَاصِيلِهِ الدَّقِيقَةِ. تَتَشَابَكُ حَيَاتَاهُمَا كَسِلْكَيْنِ مُلْتَوِيَيْنِ حَوْلَ عُنُقِ الْآخَرِ، فَيَقُودُهُمُ الْحَافِزُ الْغَرِيبُ إِلَى لُقْيَا تُحَوِّلُ وَجْدَانَهُمَا إِلَى سَاحَةِ حَرْبٍ لِلْهُرُوبِ مِنْ “الْمِثِيلِ” الَّذِي يَسْرِقُ فَرَادَتَهُمَا.


لَا تَكْتَفِي الْقِصَّةُ بِإِثَارَةِ الْحِيرَةِ، بَلْ تَغُوصُ فِي عَالَمٍ مِنَ الرَّمْزِيَّةِ الْمُعَقَّدَةِ: مَدِينَةُ تورونتو تَتَحَوَّلُ إِلَى فَضَاءٍ غَرِيبٍ مُغَطًّى بِضَبَابٍ أَصْفَرَ، كَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ كَابُوسٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ دَايفد كرونينبيرج وَلويس بونويل. هُنَا، تَصِيرُ العَنْاكِبُ ضَيْفًا ثَقِيلًا عَلَى الْمَشَاهِدِ: فَمِنْ عِنْكَبُوتٍ عِمْلَاقٍ يَسْحَقُ الْمَدِينَةَ، إِلَى بَيْضَةٍ تَتَدَلَّى فِي زَاوِيَةِ الْغُرْفَةِ، كَأَنَّهَا تُحَذِّرُ مِنْ شَبَكَةٍ قَاتِلَةٍ تُحِيطُ بِالشَّخْصِيَّاتِ.

رُغْمَ أَنَّ ڤيلينيفَ اعْتَرَفَ بِأَنَّ العَنْاكِبَ وُجِدَتْ لِتُـثِيرَ الْإِزْعَاجَ فَقَطْ، إِلَّا أَنَّهَا تَفْتَحُ بَابَ التَّأْوِيلِ: هَلْ هِيَ رَمْزٌ لِلسَّيْطَرَةِ الْاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَخْنُقُ الْفَرْدَ؟ أَمْ تَجَسِيدٌ لِخَوْفِ الْبَطَلَيْنِ مِنَ الْأُنْثَى الْقَوِيَّةِ (المُمَثَّلَةِ بِزَوْجَتَيْهِمَا البَارِدَتَيْنِ)؟ الْأَكِيدُ أَنَّهَا تُحَوِّلُ الْفِيلمَ إِلَى لُغْزٍ مَفْتُوحٍ، حَيْثُ يَصِيرُ كُلُّ مَشْهَدٍ جُزْءًا مِنْ أحجيةٍ تَتَجَاوَزُ السَّرْدَ التَّقْلِيدِيَّ.

لَوْ كَانَ لِلْجَحِيمِ لَوْنٌ، لَكَانَ هُوَ اللَّوْنُ الَّذِي يَغْمُرُ “العدو”: أَصْفَرُ كَئِيبٌ يُذَكِّرُ بِالْيَرَقَانِ أَوِ الْعَقْلِ الْمُنْهَارِ. هَذَا اللَّوْنُ لَيْسَ دِيكُورًا فَحَسْبُ، بَلْ شَخْصِيَّةٌ صَامِتَةٌ تُرَافِقُ انْهِيَارَ آدَمَ وَأَنْطُونِي، وَتَكْشِفُ عَنْ فَرَاغِ حَيَاتِهِمَا تَحْتَ ضَغْطِ الْمُجْتَمَعِ الْبَارِدِ. فَالْمَدِينَةُ الْخَرِيبَةُ، وَالْبِنَايَاتُ الْعَمِيقَةُ، وَالْفَضَاءَاتُ الْخَالِيَةُ، جَمِيعُهَا تَصِيرُ مِرْآةً لِأَنْفُسٍ تَخْشَى أَنْ تَضِيعَ فِي زَحَمِ الْوُجُودِ.

يَعْتَبِرُ ڤيلينيفُ أَنَّ “العدو” رِوَايَةٌ تُحْكَى مِنْ أَعْمَاقِ اللَّاشُعُورِ. فَالْقِصَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ صِرَاعٍ بَيْنَ تَوْأَمَيْنِ، بَلْ اِسْتِعَارَةٌ لِأَزْمَةِ الْإِنْسَانِ الْحَدِيثِ فِي زَمَنِ الْعَوْلَمَةِ، حَيْثُ تَذُوبُ الْفَرْدِيَّةُ فِي بِحَارِ التَّشَابُهُ. فِي مَشْهَدٍ مُبْهِرٍ، يَقْتَحِمُ آدَمُ مَكْتَبَ وَكَالَةِ أنطوني، لِيَجِدَ نَفْسَهُ فِي مَدِينَةٍ أَشْبَاهٍ خَالِيَةٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ، كَأَنَّ الْعَالَمَ قَدْ تَحَوَّلَ إِلَى سِجْنٍ كَبِيرٍ لِلْأَنْفُسِ الْمَنسوخَةِ.


في المشهدِ الأخيرِ المُربِكِ، يَتَجسَّدُ العَنكَبوتُ العملاقُ كَتَمثيلٍ مُرَوِّعٍ لِشخصيةِ “هيلين”، زوجةِ البطلِ الحامِلِ، مُحَوِّلاً إيَّاها إلى رَمزٍ لِلمَسؤولِيَّاتِ الجَاثِمَةِ الَّتي يَخشاها “آدم/أنطوني” كَكابُوسٍ يَهدُدُ بِسَحْقِ حَياتِه. فالعَنكَبوتُ الَّذي يَرتَعِدُ خَوْفًا لَيسَ إلّا انْعِكَاسًا لِذَعرِ “آدم” مِن ارتِدادِه إلى عَادَاتِهِ القَديمَةِ: الخِيانَةِ، والهَرَبِ مِن التَّزاماتِ الزَّواجِ وَالأُبوةِ.

عِندَما يَدخُلُ “آدم” الغُرفَةَ الَّتي تَوَجَّهَت إليها “هيلين”، لا يَجِدُ سِوى ذاكَ الكائِنِ العَمْلاقِ يَتَلَوى خَوْفًا، بَيْنَما يَظهَرُ هُوَ بِوَجْهٍ قَلِقٍ وَلكِنَّهُ مُتَحَكِّمٌ. لَيسَ هُناكَ عَالَمٌ خَارِقٌ تَسودُهُ العَنَاكِبُ، بَلْ هُوَ صَرْخَةٌ بَصَرِيَّةٌ تَكشِفُ كَيفَ يَرَى “آدم” زَوجَتَهُ: شَبَكَةً مِنَ الالتِزاماتِ تُحاصِرُهُ، وَشَرَكًا يَشعُرُ بِأَنَّهُ وَقَعَ فيهِ. العَنكَبوتُ المُرتَعِدُ يَرْمِزُ إلى إدراكِ “آدم” الدَّاخِليِّ بِأَنَّهُ يُدمِّرُ “هيلين” بِتَهَرُّبِهِ، كَما يُدمِّرُ العَنكَبوتُ نَفْسَهُ عِندَما يُحَاصَرُ.

اللَّحظَةُ الأَكثَرُ إِثَارَةً لِلْقَلَقِ هِيَ هُدوءُ “آدم” غَيرُ المَألُوفِ أَمَامَ هَذا المَشهَدِ. فَبِدَلَ أَنْ يَصْرُخَ أَو يَهْرُبَ، يُقِرُّ بِصَمتٍ بِأَنَّهُ سَيَعُودُ إلى نَزَقِهِ القَديمِ، مُتَخَلِّيًا عَن زَوجَتِهِ وَطِفلِهِ القادِمِ. هُنا تَتَلاشَى التَّفَرُّدةُ بَينَ الشَّخصِيَّتَينِ (آدم/أنطوني)، فَكِلاهُما يَختارُ الهَرَبَ مِن نَفْسِهِ إِلَى نَفْسِهِ، مُكرِّرًا الأَخطَاءَ بِلا رَعبٍ. كَما يَذكُرُ “آدم” في مُحاضَرَتِهِ عَن كارل ماركس: «المَرَّةُ الأُولَى كَانتْ مَأسَاةً، وَالمَرَّةَ الثَّانِيَةَ مَهزَلَةً».

هَكَذا يَصيرُ “العدو” لَيسَ شَخْصًا آخَرَ، بَلْ نُسخَةً مُعَادَةً مِن الذَّاتِ، تَرفُضُ النُّضوجَ وَتَتَلَذَّذُ بِسَحْقِ العَنكَبوتِ (أي سَحْقِ الالتِزامِ) كَطَريقَةٍ لِإِثْبَاتِ حُريَّتِها الوَهْمِيَّةِ. الفيلمُ يَختَتِمُ بِصُورَةٍ تَبقَى عَالِقَةً في الذِّهنِ: إنسَانٌ يُحَارِبُ نَفْسَهُ، وَيَنتَصِرُ لَهَا!


رُغْمَ جُرْأَةِ ڤيلينيفِ الْفَنِّيَّةِ، إِلَّا أَنَّ “العدو” يَبْقَى أَصْعَبَ أَفْلَامِهِ لِهَضْمِ الْجُمْهُورِ. فَالْعَنْاكِبُ الَّتِي تَسْكُنُهُ قَدْ تَجْعَلُهُ يُشْبِهُ لُعْبَةً فَوْقَ طَاوِلَةِ عَالِمِ نَفْسٍ مَسْعُورٍ، لَكِنَّهُ فِي النِّهَايَةِ يَظَلُّ تَـجْرِبَةً سِينَمَائِيَّةً تَسْتَحِقُّ الِانْصِيَاتَ لِهَمْسَاتِهَا العَمِيقَةِ. فَمَنْ يَجْرُؤُ عَلَى مُشَاهَدَتِهِ، سَيَجِدُ نَفْسَهُ مُجَبَّرًا عَلَى سُؤَالٍ: أَيْنَ تَنْتَهِي الأَنَا.. وَيَبْدَأُ الْآخَرُ؟


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *