غرقت البارحة ليلاً، وأنا أفكر في تجسير التأملات إلى فيلم وثائقي، وبالفعل كتبت الفكرة العامة والأسئلة التي يناقشها، وشاركتها للمصورة والمخرجة البديعة عفراء سعد،لتنبهني مباشرة، بأن ثمة من دلق السحر قبلك إلى الحياة..
كنت سعيداً للغاية، وأنا أشاهد ما خلقته حفصة برعي وفريقها والمشاركات/المشاركين فى دقائق لست عليها بمسيطر إلا من تولى و كفر.
تتفجر حرفة وفن “المشاطة” كفعل جمالي-اجتماعي-سياسي، يوثقه فيلم “جدائل الهوية”، كفضاء تتقاطع فيه النوع الاجتماعي، الطبقة، الجمال، والتاريخ، والمقاومة.
الجمال والمقاومة
الجمال في المجتمعات التقليدية، وخصوصًا في السياقات المأزومة،يُمارس تحت شروط قاسية من القمع والرقابة الذكورية. في “جدائل الهوية”، يظهر الشعر كمجال للسلطة؛ سلطة النساء على أجسادهن، على ذاكرتهن الجمعية، وعلى صمودهن وسط الحرب القديمة المستمرة والفوضى. ويُعد تكرار الجسد اليومي لأفعال معينة – كالضفر – شكلًا من أشكال إنتاج الذات. وتصبح “المشاطة” في هذا الإطار ممارسة تقنّن بها النساء معنى وجودهن، وتحول الجمال إلى استراتيجية بقاء وتحرك البركة بمن يُضفّر ومن يُهين؟
فالمشاطة، بوصفها مهنة تمارسها غالبًا نساء من الطبقات الفقيرة تهان في الخطاب العام ويتم وصمهن إجتماعياً. تحوّلت على إثرها كلمة “مشاطة” في الوعي الذكوري الشعبي إلى شتيمة، دالة على “قلة القيمة” أو التعدي غير المرغوب فيه على الحيز العام. وهنا تتقاطع أبعاد عدة، بإعتبار أن المشاطة امرأة ولأنها فقيرة وهي من تنتج الجمال، لكنها لا تمتلك رمزيته الاجتماعية.
بعبارة أخرى، هي من تُضفّر لغيرها، لكنها تظل مهمّشة، لا تُرَى. إنها تعبير عن ذلك النموذج الذي يخلق الجمال لكنه لا يُمنح الجمال كقيمة اجتماعية.

أرشيف المشاطة في مقاومة الشتات
في سياق الحرب الحالية، حيث فُقدت البيوت والهوية والانتماء، تقوم المشاطة بدور “المؤرخة غير المرئية”.وتحفظ عبر الضفيرة/المشاط ذاكرة المناطق، القبائل، الطقوس، المناسبات. كما تلتقط مشهد الأم الحميمي وهي تضفر/تمشط شعر ابنتها في خيمة لجوء، كمحاولة لأرشفة الماضي، وإعادة كتابة للهوية خارج الخرائط السياسية.
إن الفعل الجمالي هنا يصبح ردًّا على الحرب، على فقدان الوطن، على محو الذاكرة. ومن منظور الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، قد يُقرأ الضفر بوصفه “محاكاة للماضي” تنتج واقعًا بديلًا، مقاومًا لفقدان الأصل.
كما أنه، في ظل مجتمع يسيّج الجسد الأنثوي بالمنع والرقابة، تصبح الضفيرة جزءًا من مفاوضات النساء حول ملكيتهن لأجسادهن.لتتخلق الضفيرة تزييناً وتنظيمًا، ترتيبًا داخليًا، بل وحتى احتجاجًا صامتًا على الفوضى الخارجية.
ولعله يجاوب،هل يمكن للفعل الحميمي أن يكون ثوريًا؟ فتاتي الإجابة بصريًا: نعم.
في نقد لغة الشتيمة
تحويل كلمة “مشاطة” إلى سُبّة، هو انعكاس لما يُسميه بيير بورديو بـ”العنف الرمزي”؛ أي السلطة التي لا تُمارس عبر العنف المباشر، بل عبر تطبيع الإهانة والتهميش ثقافيًا.
وببساطة، من يملك الحق في تصنيف الجمال؟ من يحتكر معناه؟ ولماذا نحتقر النساء اللائي يُنتجن هذا الجمال في أطراف المجتمع؟
ويُعتبر “المشاط” أو “المشاطة” تقليدًا جماليًا واجتماعيًا عريقًا في السودان، يمتد جذوره إلى العصور الكوشية القديمة، حيث كان يُمارس كزينة للنساء والرجال على حد سواء، لكل سياق ومجموعة ثقافية مشاطها الخاص كما أن لكل مناسبة (فرح،حزن،ختان،لقاء حب..) شكل أو لوحة مشاط تعبر عنها (قابلني باللفة،السودان قفل،مساير،أم قرون،البوب..الخ). تُظهر الرسومات القديمة على المباني من تلك الفترة دلالات على انتشار هذا الفن، مما يعكس عمقها التاريخي في الثقافة السودانية ومع دخول المسيحية إلى مملكة دنقلا العجوز، استمرت ممارسة المشاطة، حيث كانت تُعتبر جزءًا من الطقوس الاجتماعية المرتبطة بالمناسبات المختلفة، مثل الأعراس والختان والحِداد .لكن بعد تأسيس مملكة سنار في عام 1504م، وكانت أول دولة عربية إسلامية في السودان بعد انتشار الإسلام واللغة العربية .ومع تحول السلطة إلى الحكم الإسلامي، بدأت بعض الممارسات الثقافية التي تزكي سلطة المرأة خاصة، بما في ذلك المشاطة، تواجه تحديات وتطويق بسبب التغيرات في القيم الاجتماعية والدينية .كانت المشاطة تُمارس في جو خاص ومراسم خاصة، حيث كانت تُقام “قعدة المشاط” للعروس السودانية، وتُدعى النساء للمشاركة في هذه المناسبة . وكانت المشاطة تُعتبر شخصية اجتماعية مهمة، تُكرم بالهدايا والطعام، وتلعب دورًا في التوفيق بين الأسر للزواج .ومع التمدن وتغير نمط الحياة في المدن، بدأت بعض هذه الممارسات تتراجع، وأصبح المشاط ليس بذات الرمزية والضرورة ،يُمارس في صالونات التجميل الحديثة، مما أدى إلى فقدان بعض الجوانب التقليدية المرتبطة به .

في جماليات الإنتاج
وجدتني معجباً للغاية، بإستخدام المخرجة (close up shots)لقطات قريبة للأيدي وهي تضفر/تمشط الشعر، لتضفي حميمية وتُشعر المشاهد بأنه داخل الطقس النسائي الخاص. تتحرك الكاميرا كحاضنة، تنقل فعل المشاطة من كونه فعلًا عاديًا إلى فعل عميق يتضمن ذاكرة، جمال، وتاريخ.
ويُلاحظ استخدام الضوء الطبيعي – خصوصًا ضوء الصباح والظل – لتعزيز الإحساس بالبيئة الشعبية السودانية، سواء في البيوت أو مراكز التجميل. لعكس علاقة عضوية بين الحرفة والمكان.
ويعمل الفيلم كبورتريه فسيفسائي، حيث تتقاطع شهادات النساء مع لقطات بصرية تكثف التاريخ، أنسنة الجمال المحقبة، مع إيقاعات الرقص والأغاني التراثية لتشرعك كل ثانية أنت في شأن، نافذة إلى بوابات تأمل أكبر في مفاهيم الجسد والهوية. وبالطبع يضفي التكرار حلقة وصل المشاهد؛ حركة اليد، تمشيط الشعر، الصوت النسائي، ليمنح الفيلم طابعًا شبه تأملي ويُحاكي دور الطقس/الطقس اليومي في إنتاج المعنى.
ولعل إحتفاء الفيلم بالأصوات/الصور النسائية؛ يترك مجالًا للنساء ليحكين بلغتهن الخاصة. هذه المساحة الصوتية تشكّل مقاومة في حد ذاتها. ونجحن المشاركات في تقديمهن كفاعلات يحملن ذاكرة المكان والمهنة. يتم الاحتفاء بحرفتهن وبقوتهن الناعمة، ويُعاد تعريفهن كمؤرخات خفيات للهوية السودانية لا بوصفهن ضحايا وفي المرتبة الثانية كما هو حال المزاج العام للدراما والسينما السودانية.كما يحرك سؤال يُبرز الموقع الطبقي للمشاطة، ويواجه الصور النمطية عنها، خصوصًا حين تُستخدم الكلمة كإهانة، مقابل إبرازها كمصدر للكرامة والمهارة.
ويتتبع بحرفية كيف يُحقر الخطاب الذكوري النساء العاملات في الجمال الشعبي، رغم اعتماد المجتمع عليهن في لحظات الانتقال، الاحتفال، والحزن.
وهو ما أثار حوارية قلقة داخلي، حول العنف اللغوي ضد العاملات في قطاع الرعاية والجمال، لماذا يُحتقر من ينتج الجمال؟ ولماذا تُحوَّل المهنة إلى شتيمة رغم مكانتها المجتمعية؟
لعل الإنتصارات التي حققها الفيلم،كونه لا يدافع فقط عن المشاطة كحرفة وفن، بل يُعيد الاعتبار إلى النساء اللائي ظللن عبر التاريخ يضفرن الهويات في صمت، دون اعتراف.
اترك تعليقاً