إسراء الريس
النسيان، هذا الفعل الذي كثيرًا ما يُنظر إليه بوصفه عيبًا أو ضعفًا، هو في جوهره فضيلة إنسانية، وآلية دفاع طبيعية، بل ونعمة لا يستقيم العيش بدونها. فلو كانت الذاكرة مصيدة لا تنسى، لعشنا أسرى لماضٍ ينهش الحاضر ويصادر المستقبل. النسيان لا يعني الخيانة، بل يعني النجاة.
في التجربة الإنسانية، يشبه النسيان جهاز التهوية في غرفة مزدحمة: لا يغيّر الازدحام، لكنه يسمح بالتنفس. هو ما يجعلنا نستطيع أن نواصل الحياة بعد فقدٍ، أو خيبة، أو هزيمة. فضيلة النسيان لا تكمن في طمس الأحداث، بل في تخفيف وطأتها، وفي إعادة تشكيلها بما يسمح لنا بإعادة الوقوف.
في الأدب، لطالما كان النسيان موضوعًا متكرّرًا، وإن بدا متخفّيًا خلف أسماء شتّى: الزمن، الغياب، الفقد، الغفران. من ملحمة جلجامش إلى روايات بروست، نجد أن الصراع مع الذاكرة هو صراع مع الحياة ذاتها. مارسيل بروست في “البحث عن الزمن المفقود” لا ينسى، لكنه يعيد تذوّق الماضي عبر لحظة عابرة، عبر قطعة “مادلين” تفتح بوابة الذكريات، فيؤكّد أن النسيان لا يلغي، بل يخبّئ.
أما في الأدب اللاتيني، خصوصًا عند بورخيس، فالنقيض هو المأساة: فونس، في قصته الشهيرة، رجل لا يستطيع أن ينسى شيئًا، يعيش مأساة الدقّة المتطرفة، حيث يتحوّل التذكّر المستمر إلى عجز عن التفكير والتأمّل، وتصبح حياته مختنقة بتفاصيل لا ترحم.
وفي السينما، يأتي فيلم Eternal Sunshine of the Spotless Mind كتحفة فنية وفلسفية تلخّص هذه الجدلية. الفيلم، من تأليف تشارلي كوفمان وإخراج ميشيل جوندري، يطرح سؤالًا بسيطًا ظاهريًا، لكنه وجودي في العمق: ماذا لو أمكنك محو ذكرى حب فاشل؟ هل ستفعل؟
بطلا الفيلم، جويل وكليمنتين، يخوضان تجربة محو الذاكرة عبر إجراء طبي، للهروب من الألم الذي خلّفته علاقتهما المعقّدة. لكن خلال العملية، يبدأ جويل في مقاومة المحو، محاولًا التمسّك ببقايا الذكريات، حتى تلك المؤلمة منها. الفيلم لا يقدّم النسيان كحلّ، بل كفقدٍ لهويتنا، لأننا في النهاية لسنا إلا تراكم ما عشناه، بما في ذلك ما نُريد نسيانه.
“العقل النقي من الحزن”، كما يشير عنوان الفيلم المأخوذ من قصيدة للشاعرة ألكسندر بوب، ليس هدفًا حقيقيًا. بل هو تمنٍّ عبثي، لأن الذاكرة، بكل ثقلها، هي التي تمنح لتجاربنا معناها. الألم لا يُمحى، لكنه يُروى. يُعاد تشكيله عبر الفن، والكلمة، والصورة. ولهذا يكتب البشر، ويصنعون الأفلام، ويقرأون الشعر.
في الأدب العربي، لا يقلّ حضور النسيان عمقًا. في شعر درويش، يظهر النسيان كحالة مقاومة: “تنسى كأنك لم تكن”. لكنه لا ينسى فعلًا، بل يكتب كي لا ينسى، وكي يعلّم القارئ كيف يتذكّر دون أن ينكسر. وفي الشعر الجاهلي، كان النسيان ضربًا من المبالغة الرجولية: أن تنسى المرأة، الوطن، الطلل، كي تثبت قوتك. لكن خلف كل تلك الادعاءات، تكمن هشاشة الذاكرة الإنسانية.
في النهاية، النسيان ليس فضيلة لأنه يُريح، بل لأنه يُمكّن. يمكن للألم أن يكتبنا، لكنه لا يجب أن يملكنا. والأدب، بكل تجلياته، لا يحارب النسيان بل يصادقه، يجعل منه بوصلة للتأمل، وأداة للسرد، ومرآة لفهم ما يجعلنا بشرًا.
النسيان إذًا، ليس نقصًا في الذاكرة، بل حكمة في التقدير – ليس هروبًا من الماضي، بل تمرين على ألاّ نُهزم به.
اترك تعليقاً