فصول عن المُوت

·

·

,

الكاتب: أيمن هاشم

تمضي أجيال مِن أسرتي، ننمحي ونموت، بينما تبقى الأشجار منتصبة في (الباث)، لم يكن لها تعريف يذكر بقدر الذين غادرت أسماؤهم، رقدوا على بعد أمتار منها خلف خلوة العرب في مقابر الجّبَانة، لم تكُن أعمارُهم أطول من ثلاثة شجرات نيم، ولم يتماسك طينهم أمام إنجراف العمر، مُقارنةً ببيوت الطين، التي كانت تُشيد بإستمرار حتى بعد فيضان ثمانية و ثمانين، البيوت الأن مهجورة، لم تعُد تتحدث فيها إلا الرياح، صفيرها وهي تعبر الأغصان الجافة، صارَ هو الونسة الوحيدة، صفير الريحُ وهي تعبُر عِظام الموتى.

سُميت الشجرات بشجرات عمر خالد، وهو الوحيد الذي كثرت القصص حول مقاومته للموت، رؤية شبحه يجوب بيته المهجور مرات عديدة.

 ففي موسم إزهار أشجار النيم، تكثر الخنافس الصغيرة، أصوات المارة، عربات الكارو، صوت الأطفال وهم يجوبون الشارع من المزيرة يحملون المياه في أفواهم ثم يكومون رملاً يملأونه بالماء الذي يبصق، و تنثر من حوافه فيصير كتلة، هذه الكتل الصغيرة كانت أكثر تماسك مننا نحن العائدين من الحرب.

لقد جربت الموت، ذهبت إليه وعدت، عندما وجه العسكري بندقية الكلاشينكوف في وجهي، قال لي سأقتلك، سأرميك هناك و أشار إلى حفرة تحت الكبري

أغمضت عيني، سحبت أخر أنفاسي، إستسلمت لذلك المصير، لم أستطيع أن أخرج الكلمات من حلقي، كنت أتنفس بسرعة، بلعت ريقي مرتين. شعرت بالسخونة في جسمي، و عند أسفل قدمي بجوار السفنجة، كان ذلك حينما أفرغ رصاصتين بجوار قدمي، أصبت بالصمم لوهلة، طنين هائل أطبق كفيه على أذني.

سقطت فوارغ الرصاص على بطني وسقطت على الأرض، كانت ساخنة، فتحت عيني و أنا أتلمس طرف قميصي، توقعت أن الدم يسيل من هناك، لكن لماذا لا يؤلم الرصاص، تحسست بيدي تحت القميص ولم أجد الدم، كل ما شعرت به ذلك الظل الثقيل وهو يجثم على أنفاسي، لم أعد أميز هل كان ملاك الموت أم جندي كانت ملامحه مخيفة، وجه صغير ومظلم ملتف بقطعة قماش، لم أكن لأتبين ملامحه، ورائحة حيوان نافق، صرخ في وجهي:

قف و طلع شريحة تلفونك، إفتحه.

كانت بصمة الإبهام هي المفتاح، و كانت يدي قد تعرقت بينما كانت مقبضة على اليد الأخرى، مسحتها بسرعة على طرف قميصي، و أضئت الهاتف، تناوله بسرعة من يدي وفتح معرض الصور، و أخذ يقلب ثم توقفت نظراته على صورة قائد الجيش، كانت صورة ميمز للسخرية، ولأن جنود الدعم السريع لا يفهمون الدعابة، صرخ في وجهي، أحسست بنقاط من لعابه على جبهتي، لم أستطيع مسحها، قال كلاما غير مفهوم، صرخ لجندي أخر، ناوله هاتفي ثم أفرغ رصاصة في الجو، أشار للحفرة أسفل الجسر، إختفى الأخر بعيد هناك، لم يكن الهاتف ليساوي سبعة ألف جنيه سوداني، لو تركته سيتركوني أعيش، ولو إحتججت لأصبحت جثة هامدة، سيتفرغ الدم من جسمي ببطء حتى أموت، وربما أهالوا علي التراب في تلك الحفرة، رفعت يدي أعلى راسي، أخفضت جسمي و زحفت على الأرض، وصلت للعربة و كنت ملئياً بالعرق، و عندما وضعت أقدامي على مقود العربة، سمعت صوت رصاص، كانت أقدامي متصلبة على دواسة الوقود، لكنني تمكنت في النهاية من أن أحرك السيارة برغم الرجفة الواضحة في يدي، أخذت أقود بسرعة مبتعداً عن محطة تفتيش جنود الدعم السريع و كانت الشمس في الخرطوم تغرب خلف البنايات المحترقة، رأيت كل ذلك عبر المرآة.

قضيت أول يومين من بدء الحرب في جحيم، أتذكر تماماً كيف بدأ الأمر، تبادل لإطلاق نار كثيف في الشارع، ثم صوت سيارات، و دوي من نوع تكسر حوائط في الطابق الأسفل في البناية قبالتنا.

**

كان ذلك قبل وقتٍ طويل جدًا و بسبب لا أعرفه، هاجر اسلاف أمي من بيوت العرب، تركوا قدر الشاي على اللَّداية في المنزل صباحًا، ركبوا الباصات المغادرة جهة الجنوب و نزحوا نحو الخرطوم، ولم يعودوا ادراجهم.

أحاول التجوال حافياً في المنزل ولكِن ثمةَ شوك ضريسة، وشجر مسكيت جاف، أكياس مهملة تتراقص في الفناء، لم تعد السجوف متماسكة، مروق الخشب إلتهمها النمل الأبيض، حشرات الزنابير بنت بطينها على الجدر الأئلة للسقوط، أعشاش طيور قمري ملأت السقف، هديلها المتقطع يملأ المكان، بدون أن أبصرها، أرى في الأرض خنافس سوداء تجوب المكان، تصنع أثراً خفياً، تمضي جيئة وذهاباً.

بلا شىء، تركوا منازلهم في الصباح مهيأة كاليومِ العادي، منازل نظيفة و مرتبة، أواني مغسولة على السرير الخشبي في الفناء، كل شيء منظّم وفق العادة، ربما إختفوا، تلاشوا، إنمحوا.

 هنا كان بيت عمر خالد أي بيتنا. هنا كان القِدر الذي احبُّ أن اتخيّل أنه لا زال بمكانه على اللَّداية حيث الحطب الذي تركوه صار رماد، و المنزل النظيف المرتب، ملاياته تمزقت، أتذكر قصة جدتي عن بيوتنا.

 أخرجت قدمي المرهقة من الحذاء و غطستها تحت الرمل، لكي تتصل بالأرض التي لم يصمد بها شئ غير النخل، لم أشعر بشئ، سوى أنني شجرة مقطوعة.

 هناك فراغ أسود لا أستطيع ملؤه، أعتقد أنني سمعت الكلمات التي تهمس في رأسهم عندما غادروا:

عليكم مغادرة المكان فورًا، خرجوا بلا سبب. اليوم عدت لبيتنا القديم، أعتقد بأنهم لم يغادروا كلية، ثمة أثر باقي خفي مثل رائحة الشاي.

خبأت الحقيبة تحت السرير، أخرجت هاتفي و رحت أتصفحه، إستسلمت للجو الذي صار غائماً، وملبداً بالسحب.

لوهلةٍ لم أعّد أُدرك من أنا، خاصة عندما أبدا بالتفكير عن حياتي السابقة ، أتذكر الخريف، صوتُ المطر على سقوف الزِنك بلاس بلاس بلاس، الرمل الأبيض الذي يملأ فناء المنزل، ومن غرفتي التي تطل على باب الشارع، أبحث عن أشد الذكريات قوةً، تداهمني ذكرى صافيةٌ، عن فتاة تنتظر المواصلات تحت سقف الدكان، المطرُ يهطل، الشارعُ الترابيُّ الأحمر موحلٌ بالطين ومنه تنتشر رائحة صابون لوكس من أحد المجارير، ، أنظرُ إلى نفسي طفلاً وأقفز فوق برك المياه، هارباً من قطرات المطر الصغيرة كيلا يبتل ردائي القصير، تصنع النقاط دوائرَ ما أن تلامسَ البرك، أمدّ يدي ممسكاً ببسلة الفول الذي ينبعث بخاره الرقيق، تملأ رائحة الطعمية أنفي.

 وعندما أقترب من الدكان تختفي، مثل طيف لا يمكن الإمساكُ، مثل بخار ماء، للهيولي خاصتها ألوان تشبه لون لبان بولا- الوردي الأقرب للبنفسجي وقبل أن يبدأ في أن يصبح داكناً، خفيفة مثل من لا تطوق، أعرفها بمزيج الرائحة، الطين، بخور عائلي، لبان بولا، أحسها كقطرة مطر خفيفة، عندما تحمل الريح الرطوبة الأولى، عندما تفقد الأرض حرارتها، و تفقد السماء ليونتها، يصير من المستحيل إلتقاط لحظتها، توثيق الهيأة الأولى، كلما بحثتُ، في طرق حياتي، عن أشد الطرق وعورة في الكتابة، تداهمني تلك الذكرى الغائمةُ، التي تماثل بداية الخريف، سحب مظلمة، و مغيب باكي.

**

في البداية ظننتُ نفسي أحلم، وعندما حركت جسدي قليلا، إنتبهت إلى أن قدمي قد علقت بحديد طرف السرير المتعرجة، باغتني صوت الرصاص في الشارع، سمعت صوت والدتي بالمطبخ وهي تصرخ، النوافذ تهتز مع تلك القرقعة المدوية، صرير يخترق أذني، ثم صمت مفاجئ، كنت لحظتها قد عبرت الصالة حيث أنام في الغرفة، وعندما رفعت رأسي كان ثمة وميض أبيض من خيوط تخترق السماء السوداء، صارت الخيوط البيضاء أكثر وهجاً تحمر وتختفي، أصبت بغثيان وتعرقت كثيراً من يدي حيث أمسكت بطرف باب الغرفة وأغلقته، كنا بالداخل أنا وأمي وإخواتي.

بيوتنا مربعة، تفتح ناحية السماء وليس ثمة سقوف، جدران من الطوب الأحمر الضعيف، تآكل بفعل الخريف الماضي، وشجرتي ليمون في فناء المنزل، أحواض صغيرة لزهور صباح الخير التي لم تتفتح بعد، لأن الشمس لم تشرق، الخط الأحمر للشفق يحيل السحب لقطع من الدم المتجمد تتناثر في سماء زرقاء.

فتحت أمي التلفاز، كنت أضغط على الأزرار حتى تناهى لسمعي، إعلان الحرب بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع، قالت سامية إنها خائفة بينما إختبأت ملاذ في حضن أمي، كانت ترتدي بيجامة، أحاطت ملاذ بيديها على خصر أمي التي بدت مشدوهة ناحية التلفزيون وكانت تحدق في فراغ الشاشة المستطيلة التي تهتز مع دوي الإنفجارات.

إتخذت قراري بأن أتقدم خطوات ناحية الباب، صوت السيارات الحربية يقترب من باب البيت، ثم سمعت دوي إنفجار أصم أذني، هرعت للداخل حيث تطاير الحديد وإخترق سقف صالة المنزل، طاق طراق في الأعلى، لم تكن الغرفة أكثر أماناً فسقفها من صفيح الزنك، قالت أمي أنها تركت قدر الشاي يغلي، سمعت صوت صفير طويل، وأحسست بأنني أحلم، قالت لي أمي إذهب لتأخذ حقك منهم، و كان الدم يسيل من رقبتي، كنا ثلاثة أشخاص تكومت أجسادهم بجوار سرير، إمتلأت أنفي برائحة الغبار المحروق، ظننت أنني أحلم، وعندما حركت جسدي قليلا، إنتبهت إلى أن قدمي قد علقت بحديد طرف السرير المتعرجة ولم تخرج.

إستيقظت على صوت راديو، وصفير برادة الشاي، تسللت رائحة دخان خفيف لأنفي، كان الفراش بارداً، تقلبت في رقدتي، سمعت إخواتي يتهامسن، كيف جاء بهذه السرعة، صوت إذاعة أمدرمان الصباحية يرتفع، ثمة من يعبث بالراديو، ومن على البعيد كان الباب الحديدي يُطرق، فتحت عيني ولم أبصر أحد، دعكت جفوني مرة أخرى ثم رأيتهم، كانوا شفافين مثل قناديل البحر، بطن شفافة بالكامل، رأيت قلبها و كان به شرخ، فزعت و رميت الملايا بسرعة، كانت أقدامي شفافة أيضاً.

نهضت لأحتضن أمي، لم أكن أشعر بأنني أمشي، كنت أطفو فوق الرمل، كمركب عائم وصلت للسرير الذي تجلس عليه.

قالت أمي لسامية: صبي له الشاي.

لم تكن لسامية أيادي واضحة عندما عانقتني، لكنها بالكاد حركت السكر داخل الكوب، كان لون الشاي أحمر شفاف، و كذلك قلب أمي.

الإذاعة السودانية تقدم، صوت مارشال عسكري، ثم صوت مذيع غائم، أحسست به يصدر من فراغ في الصدر، تتقدم قواتكم في الجبهات.

حملت ملاذ المكنسة، وكان نصف كتفها غير مرئي، كانت تهش أوراقاً ميتة، قد سقطن من شجر النيم و قالت : لقد جئت متأخراً.

سألتهم، منذ متى أتيتم.

حملت أمي أوراق الملوخية وقلصت الأوراق السوداء الذابلة و رمتها في طبق، ثم رأيت جدي الشفاف يعبر الشارع كقنديل بحر، كان شاحباً وأبيضاً، كنت أشم رائحة المطر، هذه الرائحة الحية تجرني من يدي، ناحية الفناء.

قالت سامية، سوف تذهب إليهم هناك، في الخلوة أو في البحر، لتعرف مكانك بالضبط، قلت لها، ماذا تعني، أجابت أمي بحركة من يدها نزعت بها ورقتين من الملوخية وتركت الباقي، فهمت أنني يجب أن أعود، ثمة أغصان حية في شجرتي، فتحت الباب وإتجهت ناحية خلوة العرب، قابلت جدي عمر خالد، وكان يربط حماره تحت النيمة، عرفت ان النيمة هي عمره، ثم إتجهنا سوية ناحية سريره في الخلوة، حرك ببساطة الورق من على السرير المنسوج بسعف التمر وكأنه ريح، جلس واشار ناحية المقابر، كانت خلفه.

قال لي: أنظر إليهم إنهم مطمئنين.

 مد بيده بلحة ثم صار ينزع عنها حتى صارت نواتها ظاهرة، قال: نحن كالتمر لا نموت عندما تنزع منا أجسادنا، بل تبدأ حياتنا من جديد، حينما نُدفن تحت التراب. أومأت برأسي وقد بدأ قلبي يخفق، أحسست بغُصة في حلقي، ولكنني لا أريد أن أذهب للأعلى، مقابر الجبّانة.

ما الذي تريده، أمك هربت من القرية، وأنت تريد أن تهرب.

حينها فقط بدأ الدم يصل لقدمي، وبدأت أحس بها، لا أريد أن أخذ نصيبي، لا أريد أن ينبُت التمر مِن فمي، أمسكتُ بطرفِ السرير الخشبي كان خشنًا، شعرت به ملئ بالحياة، ببطن يدي أمسكت بالسرير و مازلتُ أُمسك به، لا أعرف إن كانت هذه جنازتي، أم هل سيصل أحدهم للبيت ويسعفني، ربما  سأستيقظ من هذا الكابوس، ولكن متى؛ لا أعرف.!


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *