الكاتب: إسراء الأمين

تعالت أصوات الاستحسان، كان انفعالها يضفي لمسة مبهجة على النص، تتراقص الأحرف في طرب كلما لفظتها، تصمت فيحل السكون أرجاء القاعة، تتحدث فتتعالي أصوات الشهيق واضطرابات الإنفعال.

مضى ما يقارب الأربعين دقيقة، كانت تقرأ بشغف عارم، لم تتوقف سوى مرتين لتتجرع بعض المياه ثم تعود إلى المتابعة.

كان الجميع ينصتون بحماسة فائقة، فلصوتها حضور طاغ على كل شئ.

هذه هي المرة الأولى التي تقرأ فيها النص، فهي على براعتها شخصية تمتاز ببعض الكسل والتسويف، تعول علي شغفها وبراعتها في ممارسة عملها على الرغم من أن والدتها كانت دائما ما تحذرها من أن كسلها هذا سيزجّ بها يوما في الاحراج وربما بعض المتاعب. ولكنها كانت كمن يناجى الصخر.

دائماً ما تبرر كسلها بأن الانفعالات البكر هي الأصدق، لذا فهي تفضل أن تختبرها مع الجمهور.

هذه المره ندمت كثيراً علي كسلها، كان قلبها يعتصر مع تسلسل الأحداث، لو أنها قرأت هذا النص قبلاً لما وافقت على إلقائه على الرغم من الضائقة المالية التي تمر بها. وعلى الرغم من رغبتها العارمة في اقتناء بدلة من الجلد.

لقد سبق لها أن وافقت على إلقاء أعمال رديئة كثيرة جدا بسبب المال، ولكن هذا النص يفوقها رداءة وتشوهاً.

كانت تهمس في داخلها بأن هذا الكاتب أيا يكن ما هو إلا رجل معتوه، لحسن حظها أنها بارعة جداً في الفصل بين أفكارها الداخلية وانفعالاتها وتصرفاتها الخارجية. لم يدرِ أحد عما يدور في ذهنها في تلك اللحظة.

تذكرت حديث الناشر على الهاتف قبل ما يقارب الاسبوع، ومدحه لهذا العمل وتوقعاته بالمستقبل المشرق لهذا العمل مقسماً على أن الكاتب قد حجز مقعده مسبقاً ضمن أفضل كتاب هذا الجيل. وكيف انتقلت إليها حمى هذا الحماس فاكتفت باستحسان الغلاف وبالبراعة الظاهرة في اختيار إسم العمل.

عاد بها التفكير وهي تقرأ وتنفعل مع النص المكتوب باسلوب ردئ يخاطب المشاعر السطحية للمراهقين، هي لا تنكر أن سحر صوتها قد أضفى بريقا وروحا على هذا النص، ولكن رباه! ما هذا الهراء المكتوب.

مضت الساعة الأولى وانتصفت الرواية وكما هو معتاد توقفت, وتوجه الجميع نحو المقهي لاستراحة قصيرة ثم تستأنف بعدها القراءة كأحدى طقوس أمسية الاحتفاء بالكتاب؛ الذي تتمنى أن تلقى به في المزبلة فور الانتهاء من قراءته، متمنية أن يذهب هو وصاحبه الي مزبلة التاريخ.

كانت تسير متوجهة الى المقهي عندما قاطع طريقها رجل ثلاثيني تشي هيئته بالزهو والمرح، أخذ دماغها المزدحم ما يقارب الثانيتين من البحث والاستذكار حتي عثرت عليه اخيرا، أن حضورها المتأخر الي الفعالية فوت عليها التعرف على اهم الشخصيات المدعوة إليها، وأخيراً تذكرت أين رأت ذلك الوجه.. لقد رأته مطبوعا على غلاف روايته “نساء من هذا الزمان” من الخلف، مع سيرة تتحدث عن رجل يكاد يقدس نفسه، انتبهت إلى هذا الأمر في تلك اللحظة وهي تربط الأحداث ببعضها.. حديث الناشر، الرواية المحتفى بها، سيرته التي تحدث بأنه الوريث الشرعي للطيب صالح، ابتسامته التى تشع بزهو لا داعي له.

حياها وابتسامة رضى تشع من وجهه. سارا معا نحو طاولة القهوة فابتدر الحديث:

-كنت رائعة

-شكرا لك.!

-ان سعادتي لا توصف، أنت إضافة حقيقية للنص، أعلم أنك كنتِ مستمتعة جداً بالقراءة، فملامحك تشي بذلك، ولكني أفضل لو أسمع هذا الرأي منك مباشرة.

كاد فنجان القهوة أن يندلق من يدها، تداركت الأمر بارتباك واضح

– آه أجل، لقد وفقت في هذا العمل وفي رأي أن لك…

قاطعها بسرعة:

اوه، سيدتي لا داعي للانفعال إلى هذا الحد، أنا شخص عادي جداً خذي راحتك في الحديث ولا تتوتري، سآخذ عنك كوب القهوة اذا سمحتي لي.

-لست متوترة، أنا فقط _أصابها الحنق، توقف عقلها عن التفكير، ما هذا الأحمق؟ ومن أين أتى؟!! _ لا داعي.. أشكرك، يمكنني أن أحمله بنفسي

إبتسم بتعجرف:

– أنتِ لا تخططين إلى إهانة الجنتلمان بداخلى أليس كذلك؟

-ابتسمت في بلاهة وهي تردد في داخلها يا له من أحمق سمج!

قاطعهما انضمام شابتين الي الحديث، توجهت الأولى بالحديث إليها عن إعجابها الفائق ببراعتها وشغفها، طالبة منها بعض النصائح متمنية أن تصبح مثلها يوماً ما.

بينما راحت الأخرى تتناقش مع الكاتب بشير الجيلاني عن فكرة الرواية والقضايا التي تناقشها، وتبنيه للقضايا النسوية، أصابها الغثيان وهي تسترق السمع إليه وهو يخبرها بتفرده في مشروعه الكتابي الذي يقوم ليس فقط علي طرح الأسئلة بل وحتي إيجاد أمثلة واقعية كحلول موضوعية لقضايا المجتمع الشائكة، على الرغم من الاحباط العام أصابها بصيص أمل من حديثه مستبشرة أن الرواية لا تزال في نصفها الأول.

انتهت الاستراحه وعاد الجميع الي مقاعدهم وعادت هي لممارسة شغفها، عادت لتغوص في النص.

لا يزال صدى حديثه يتردد في ذهنها، هو يري أنه لا يطرق القضايا فقط بل ويجد حلا لها، هيا لنرى إذا حلول هذا العبقري!.

وقرأت .. كان يناقش قضية حرية المرأة، وانبرى البطل في القصة مدافعا عن حق المرأة كشئ أصيل ولا يعتبر من الرفاهيات، لم يقترح حلولا كمسألة التعليم مثلا، بل اعتبر دفاعه المستميت هو الفيصل في القضية، وهو وحده القادر علي احداث الفرق!.

كان الشعور بالأسى يتضاعف مع اقتراب الرواية من الخاتمة.

ها قد انتهي الاحمق من العويل، وانقطع حبل أفكاره عند هذه النقطة وانتهت الرواية أخيراً.

بعد أن أنهت قراءة للنص اتيحت الفرصه للجمهور لإبداء آرائهم حول نص الرواية، كان الناس منفعلين جدا ومأخوذين بتأثير قرائتها البديعة، صوتها الآسر ومخارج حروفها السليمة. أصيبت بالخيبة عندما تحدثت متداخلة حديثه السن ويبدو أنها حديثة التجربة في القراءة أيضًا عن تأثير هذا النص عليها، ووصفها إياه بأنه من أعظم ما مر عليها حتي الآن وأنه قد شكلا فرقا كبيراً في نظرتها للأمور، مؤكده على انها ستواظب على قراءة كل ما يخطه هذا الكاتب العظيم.

شعرت بأنها تمجد الغباء وتسوق له، تحججت بالسعال لتغادر المنصه وتختلي بنفسها لبعض الوقت.

أجلت مشوارها لشراء بدلة الجلد التي كانت تتحرق لتحصل عليها، قذفت المظروف المالي في الدرج عندما عادت الي المنزل، وقذفت بنسختها الموقعة من الرواية في سلة القمامة، فقدت الرغبة تماما في اقتناء بدلة الجلد، شعرت نحوها بكراهية مفاجأة، اخذت القلم علي الرغم من إيمانها التام بعدم مقدرتها على الكتابة، ولكن شعور الرغبة في الكتابة كان أعظم من مقدرتها علي أن تتجاهله، وشرعت في الكتابة عن آليات صناعة الحمقى والأغبياء.

#إسراء_الأمين

#جائزة#محمد_سعيد_ناود#للقصة_القصيرة#الدورة_السابعة_2021


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *