فاروماكروس كويتزال

·

·

للكاتب: عبدالرحمن عباس

نزل الليل كأمٍ رؤوم وغطّى مزرعة فريدريك ستونز في حُنُو. لطالما عاشت المزرعة الواقعة في أقاصي الريف الإنجليزي في سلام بعيدًا عن صخب المدن وضجّتها. كانت متوسطة المساحة، بها حقول للذرة والخضروات، وقد قُسّمت بانتظامٍ عجيب حتى بدتْ كرقعة شطرنج ضخمة، وفي مركزها تمامًا انتظمت مبانٍ مجاورة لبعضها مثل مجمع صغير. مالكها فريدريك ستونز كان رجلًا أشقرًا بدينًا، له أنف رومانيّ طويل وعينان زرقاوان تضمران المكر والدهاء، ووجهٌ غاضب وحواجب معقودة وشاربٌ كثيف يتدلّى على جنبي فمه الذي يخفي أسنانًا صفراء نصفها غير موجود. كان عادةً ما يرتدي مريلة ضخمة من الجينز وقطعة قماش حول عنقه وحذاءً يحدّ ركبتيه ويحمل مسدّسًا لا يفارق خصره للحظة، كما كان له وشم صليب ٍفي ذراعه اليمنى والكثير من الندوب على ذراعيه وصدره ووجهه المتحجر.

في بداية تلك الليلة الضبابية عاد فريدريك بعد الانتهاء من العمل في الحقل وتفقّد مخازن المحاصيل، وتأكّد أنّ خضرواته بحالة جيّدة وبعيدة عن الرطوبة التي كانت كثيرًا ما تفسد عليه إنتاجه المتواضع. خارج المخازن كانت السماء قد تلبَّدت بسحائب سوداء داكنة، تنتظر خلود الأنام لتلقي بجام غضبها على الأرض. لمع البرق وشقَّ عنان السماء وأضاء الأرض، فلمعت لوحة قديمة على بُعد كيلومترات، كُتِبَ عليها بحروف إنجليزية كبيرة:

 STONES’S FARM

وتلا البرق هزيم رعود جعل الأرض تهتزّ كأنّما تتراقص وتتحرّق شوقًا لهطول المطر. وفي غضون لحظات كانت قطرات كبيرة من الماء والبَرَد تنزل على الأسقف الحديدية لمباني المزرعة. صوت ارتطام المطر والبَرَد كان يُخفِي صوتًا خافتًا يتردّد من مخازن الخضار. وبعد أن أطمأن أنّ كلّ شيء على ما يرام، اتجه فريدريك إلى منزله داخل ساحة المزرعة، وفور خروجه كان صوتٌ يعلو في المخزن بطريقة دراماتيكية.

– “إلى متى سنبقى على هذا الوضع، إنّنا محبوسون منذ زمن ويُزّج المزيد منا كلَّ فترة”، قالت شارلوت.

‏صاح لينغارد: “نعم نعم، إلى متى سنظل عالقين هنا “.

وعبّر هاري عن استيائه الشديد من سوء المعاملة التي يلقونها من قِبَل السيد فريدريك.

        استمرّت الأمطار في الهطول بغزارة، وفي ذات الأثناء كانت الأصوات من المخزن تعلو وتهبط باستمرار. لم يسمع فريدريك شيئًا سوى ضجيج الأمطار، في الوقت الذي كان فيه يحتسي الشاي بالقرنفل مرتديًا معطفًا ثقيلًا ومدندنًا في سعادة مريبة إحدى الأغاني العتيقة التي سمعها عندما كان شابًا في مقتبل العمر. في المستودع علا صوتٌ زاجرًا كلّ الأصوات التي تتململ:

–      “يا لكم من جيل ضائع! كيف تجرؤون على التعدي على السيد فريدريك بتذمّركم، ألا تعلمون أننا نعيش تحت كنفه؟ كيف سنعيش من دونه يومًا واحدًا؟”

سانده صوتٌ آخر: “أتدعوننا للاعتراض على قضاء الله؟ هكذا قُدّر لنا، حياتنا يُسيّرها السيد فريدريك بحكمته البالغة، وما علينا سوى الخضوع”.

قالت شارلوت معترضة: “نحن لم نعترض على قدر الله ومشيئته، فقدرته نافذة لا محالة ولكن لا يجب أن نذعن لما يحدث لنا”. ردّ صوتٌ ممتعضًا: “ثم ومنذ متى ويسمح للإناث بالكلام”.

ردّت شارلوت بحنق: “يا للسخرية، لن أردّ عليكم، فالطيور التي تولد في الأقفاص تعتقد أنّ الطيران مرض.”.

    عمَّت الضجة مساحة المخزن واختلطت الأصوات ببعضها، حتى سكت الجميع إذعانًا لأمر آرثر لهم بالصمت. الجميع كانوا يُكنّون الاحترام لآرثر فهو بمثابة الجدّ للجميع، وكلّ من زُجّ به في المخزن وجد آرثر قبله. كان آرثر طويل القامة عريض المنكبين، له شعر قد غزاه الشيب وذقن قصيرة ووجهٌ باسم بتلقائية. طفق آرثر يتحدث:

–   “تعلمون جيّدًا أنّني هنا لفترة تزيد عن أضعاف أعمار الكثير منكم، وقد جرَّبت العالم الخارجي وعدتُ إلى هنا وعاشرت الكثير من الذين قبلكم، وقد استمعتُ لحديثكم قبل قليل وقد استمعت لحديثٍ مشابه وشاركت فيه قبل سنوات، والأمر يا شارلوت ليس بهذه السهولة، حاول الكثير منا قبلكم ولكن جميع المحاولات باءت بفشل ذريع حتى تركنا المحاولة.”.

 ردّت شارلوت: “هل تريدنا أن نرفع العلم الأبيض إذًا؟”

– “أنا لم أقل ذلك، ولكن ينبغي أن نرسم مخططًا حتى نضمن النجاح.”، قال آرثر.

كان المخزن يضيق بكثير من ذوي السحنات الإفريقية الذين اتخذهم فريدريك عبيدًا يمارسون أعمال المزرعة،  جميعهم غُلِب على أمرهم، جاءت بأجدادهم السفن التابعة للإمبراطوريّة التي لا تغيب الشمس عن أملاكها من أقاصي أحراش إفريقيا قبل سنوات طويلة. احتفظ فريدريك بهم في المخزن رفقة الخضار، فرشُهم الأرض وملاذهم من البرد جوالات البلاستيك وأحضان بعضهم. عندما ينبلج الصباح تُفتَح لهم أبواب المخزن، وتتسلّل أشعة الشمس إليهم فتجعلهم يبدون مثل جليد ذوّبته الحرارة. وفي كلّ مرة تُنذِر السماء بالمطر كان فريدريك يتلو من إنجيل يوحنا، وفي الوقت ذاته يصلّي من في المخزن للربّ لكي لا تغدق السماء بالمطر، فالمطر يعني البرد والجوع والفزع.

‏لطالما مثّل فريدريك الكابوس المرعب الذي يقلق نومهم ويحيل حياتهم إلى جحيم بلا نهاية. حين يخلدون إلى النوم كانوا يرونه -فيما يرى النائم- وهو يجلدهم بسياطٍ من الجلد معذّبًا إياهم بطرق وحشية وبشعة. وضعهم لم يكن محتملًا بالمرّة، ولكن ماذا بيدهم وفريدريك كالشبح يحوم حولهم منكّلًا بكلّ من تسوّل له نفسه عصيانه أو التخاذل في تنفيذ أوامره. أخبرهم آرثر كيف حاولوا الفرار ذات مرّة قبل سنوات، وانتهى الأمر بالقبض عليهم وتعذيبهم أشدّ أنواع العذاب. أقسم آرثر أنّ بعضهم قد قطعت أذنيه أمام البقية، وبعضهم اقتُلِعت جميع أظافرهم، وآخرين قُطّعت أصابعهم عن بكرة أبيها، روى لهم ما حدث مخفيًا دموعه والغبن القابع في صوته. انصت الجميع بإمعان ورقصت أجسادهم من البرد ومن الخوف، وتملّكتهم القشعريرة وخنقتهم العَبرة. بعضهم أحسَّ بالاشمئزاز الذي يعتري الشخص عند رؤية مشهد دموي، وبعضهم طرد فكرة مواجهة فريدريك وفضّل أن يعيش بذلّ بدلًا عن الموت تحت وطأة التعذيب.

بعضُ الكبار الذين اعتادوا على وضعهم المزري لم يروا أنّ هنالك داعيًا يدفعهم للمخاطرة بحياتهم في سبيل أن يصبحوا أحرارًا، أمّا الشباب أمثال شارلوت ولينغارد كانوا يرون أنّ الحياة أوسع من أن تُختزل في عمل مُذِلّ في خدمة وحش وبلا مقابل، وعبّروا عن استعدادهم للتضحية بأنفسهم في سبيل أحلامهم وخلاصهم.

وبعد نقاش دام لساعات اقتنع الجميع بخطّة آرثر التي تقتضي الانقضاض على السيد وتخليصه من مسدسه ثمّ أسرِه، وبعدها سيقرّرون ماذا سيفعلون به. وأشار لينغارد إلى أنّه مستعدٌ تمامًا ليرمي جسده نحو الرصاص مضحّيًا بنفسه في سبيل الجميع. لم يستغرب أحدٌ قوله، فلطالما حرّضهم لينغارد للتمرّد على السيد، في كلّ ليلة ماطرة كان يخطّط ويوجّههم ويشحذ هممهم ويخبرهم أنّ الوقت المناسب قد حان، وعندما يتوجسون خيفةً يخبرهم أن لا بأس بذلك، ومع كلّ ليلة تمرّ كان يقينه بهم يزداد. وفي تلك الليلة بالذات شعر أنّ أمرًا ما مختلفٌ بشأنهم عن كلّ مرّة،استطاع رؤيتها في عيونهم: الرغبة العميقة والحقيقية في الخلاص.

انتظر الجميع بزوغ الصباح بفارغ الصبر، ليعلنوا تمردهم على السيد بعد أن تفتح أبواب المخزن. لم يتمكّنوا من النوم، كانوا مدفوعين بسطوة الأدرينالين واستمرّوا مستغرقين في التفكير في انتظار الصباح المصيريّ الذي سيعلن مع بدايته حريتهم وإطلاق العنان لأحلامهم.

في الساعات الأولى من الفجر تضاعفت حدّة الأمطار وارتفع هدير الرعود لدرجة مُفزِعة ثم فجأة سمعوا انفجارًا هائلًا. أضاء البرق السماء كلّها، تبكّم الجميع وهم يستمعون إلى هدير الرعود. كانوا على يقين تام بأنّ صاعقة قد ضربت المزرعة لا محالة. استيقظت طفلة وانفجرت بالبكاء وصرخت النساء فَزِعات، وارتسمت على وجوه الرجال تعابير غير مفهومة.

توقفت الأمطار وبزغ الصباح واستبانت المزرعة شيئًا فشيئًا كغلاف كتاب عتيق نُفِخ عنه الغبار. استفاقت الحيوانات وعلت زقزقة الطيور. تقدّم آرثر نحو الباب وتفقّده، وجده مفتوحًا.  خرج الجميع في حذر متجهين صوب منزل السيد حاملين  ما استطاعوا حمله ويصلح أن يستخدم كسلاح، ولكن عندما وقفوا أمامه هالهم المنظر، إذ لم يجدوا المنزل. عثروا على كومة من الأخشاب المحترقة والأثاث والأواني المتناثرة وإنجيلٌ مُتفحّم وجسدٌ مُلقًى على بُعد بضعة أمتار من الدمار. تفقّدوا الجسد وتبيّنوا أنّه جثة محترقة مُتفحّمة وكان واضحًا أنّها تخصّ فريدريك ستونز لضخامتها. وجدوا أيضًا اللوحة التي بها اسم المزرعة قد اقتلعتها الرياح، وألقت بها قرب بقايا المنزل.

وقف الجميع مشدوهين غير قادرين على الكلام، تحرّك آرثر وقام بتغطية الجثة وفي غضون دقائق حفروا له قبرًا كبيرًا ودفنوه. قام آرثر بغرس اللوحة المكتوب عليها بحروف إنجليزية كبيرة “ستونز فارم”- قام بغرسها في جانب القبر، ففي النهاية كان هذا القبر وقطعة الحديد الصدئة هي كلّ ما حصل عليه فريدريك من مزرعته.

مضى الجميع إلى الحقول ولكن ليس بأمر السيّد هذه المرة. ركضوا يسابقون الرياح وهي تداعب النباتات على مدّ البصر. كانت السعادة تغمر مساحة المزرعة، أشرقت عليهم الشمس، وهم يقابلونها بعيون مفتوحة وثغور ضاحكة. بكى الكثير منهم من السعادة واكتفى بعضهم بالابتسام، لكنّ أنظارهم جميعًا اتجهت إلى طائر كان يُحلِّق فوقهم. كان بالغ الجمال، له ذيل طويل، يزدهي بلون ذهبي مخضرّ وبنفسجي مائل إلى الزرقة ويُغطّيه الريش الحريريّ. أطلق الطائر ترانيم عالية آسرة كأنَّه يشاركهم فرحتهم. تساءلوا عن ذلك الطائر، الذي لم يروا له مثيلًا في حياتهم، التفتوا جميعًا نحو آرثر الذي كان ينظر نحوه بعينين دامعتين. أخبرهم بصوتٍ دافيء متحشرج: إنّه طائر الحرية الذي لا يرضى حياة الأقفاص، طائر الكويتزال المتألّق[2].


[1] فاروماكروس كويتزال  هو الاسم العلمي لطائر الكويتزال الذي يعيش في الغابات الاستوائية في أمريكا الجنوبية وتوجد فصائل منه من جنوب المكسيك وحتى غرب بنما.

[2] يُعرف عن طائر الكويتزال أنّه يرمز للحرية، إذ يُفضّل الموت على حياة الأقفاص. 

القصة الحائزة على جائزة مجل جديد الإلكترونية للقصة القصيرة


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *