للكاتب: عثمان الشيخ
الساعة الان العاشرة مساءًا وانت محشواً داخل غطائك الصوفي الثقيل، على سريرك المهترئ في باحة المنزل، توزع نظرك بين شاشة هاتفك البطيء وصفحة السماء الصافية. فضاء المكان حولك ساكن ولا أثر لأي شيء. تسمع صوتاً خفيفاً ومتصلاً يأتيك من مكانٍ ما، تتسع اذناك لتحديد موقع الصوت. والذي كان متناغماً ويتكرر بطريقة منتظمة، تضع هاتفك برفق تحت الوسادة، وتستدير نصف استدارة، تُنصت بشدة وانت تحاول تتبع مصدر الصوت. تستغفر الله العظيم وتحوقل، تبتلع ريقك بصعوبة وانت تهمهم بأية الكرسي… تفكِّر أن توقظ الشخص النائم بقربك وتتراجع عن ذلك سريعاً، تستجمع قواك الخائرة، وتزيح الغطاء الصوفي الثقيل عنك.. تجلس في منتصف السرير، تلتهم ما حولك بحدقات عينيك المتسعة، وذهنك المتحفّز، تتنفس ببطء، وقلبك يكاد يخرج من مكانه، تضع رجلك اليمنى على الارض برفق، وتتبعها باليسرى بخفة. طقطقتْ السرير المهترئ تزعجك؛ فتطبق على اسنانك بقسوة. تحدد مكان الصوت، تتحرك على امشاط اصابعك كلصٍ يتحفز لأخذ غنيمة. الصوت ما زال رتيباً ومنتظماً وخفيفاً، أنه يأتي من الحمام المغلق هكذا غلب ظنك. كلما اقتربت منه اتسعت عيناك حتى كادتا تخرجان من مكانهما، دقات قلبك تزداد ارتفاعاً كدوي طبول افريقية.انت الان على بعد خطوات من الحمام، يسري خدر خفيف في جسدك، تتعرق، وتحافظ بجهد عالي على مستوى تنفسك. تدفع الباب برفق، لا شيء غير الظلام القاتم، تمد يدك المرتجفة نحو مفتاح الانارة. ينتشر الضوء في أرجاء الحمام، فتبدو الاشياء أمامك واضحة، ملابسك القذرة التي غيرتها صباح اليوم، قطعة صابونة بائسة اهترئت من كثرة الاستخدام، وصنبور ماء قديم به تسريب خفيف.(2)فور انتهائك من المكالمة مع صديقك العائد لتوه من السفر، والذي يسكن في القرية المجاورة، أخبرت والدتك بالذهاب إليه بعد المغرب لشرب الشاي.لم يكن الفارق الزمني كبيراً بين المكالمة وخروجك. والذي جاء مبكراً حتى لا تتأخر عنه. اخترقت الشوارع بخفة، حتى وجدت نفسك أمام منزله. جلستما وسط الحوش الواسع تتبادلان الحكايات والضحكات.ودّعته وخرجت متجهاً نحو دارك، مثبتاً سماعة أذن تسمع من خلالها الى لحن هادئ يناسب هدوء الطريق، والذي بدأ خالياً من اي أثرٍ للحياة، لتمتد امامك مساحات مهولة من الرمل والظلام، وانت تٙنسلّ عبرها خفيفاً كنسمة بين الاشجار . منتشياً في سيرك، لا تحس بما حولك. نداء هامس يأتيك من مكان ما، ويدٌ خشنة حطت على كتفك. نَزعتْ سماعة الهاتف بقوة، والتفتْ بذعر… لم ترى شيئاً. نطقت الشهادتين بسرعة، بحثت عن لعابك لتبتلعه… جف حلقك وانعقد لسانك. استدرت بخفة في كل الاتجاهات، محاولاً التحكم في جهازك التنفسي. قلبك يخفق بقوة، ويكاد أن يخترق قفصك الصدري. تتأكد أنه لا يوجد شئ، تتحرك خطوات حذرة الى الامام، تسمع اصوات خطوات من خلفك، تتوقف مكانك، وبذات الهيئة التي كنت تسير عليها ولا تحاول تغييرها، فارداً يدك اليمني الى الامام ومؤخراً يدك اليسرى الى الخلف مائلاً بجسدك للمقدمة، ترهف سمعك، وتحرك راسك الى جهة اليمين تارةً، والى جهة اليسار تارةً اخرى، ولا تسمع شئياً. تتحدث بصوت مسموع (انت منو يا زول..) تضيع كلماتك المرتعشة في الفراغ، ويمتلئ قلبك بالحيرة. تتحرك مجدداً ولكن بسرعه اعلى، تزيد من معدل خطواتك… يزداد الصوت الذي خلفك، ووقع الخطوات. تركض بشدة، مصوباً نظرك إلى الأمام، لا تلتفت إلى الوراء، تخترق الشوارع كسهمٍ طائش، وتستقر عند باب دارك مبللاً بالبول والعرق. ترتجف كطائر نزلت عليه امطار. تنام ليلتك والليالي التالية، وانت متقرفص داخل غطائك الصوفي الثقيل، رغم الجو المعتدل، يوقظك طنين البعوض مذعوراً، وتنكمش على نفسك عندما تسمع اصوات الضفادع.(3) في الخامسة من عمرك، وعند سقوط الشمس في حِجر الفضاء الاخير؛ كنت انت ومعك سبعة أطفال تلعبون قرب النهر، لا تكترثون لانفلات الوقت من قبضة حرصكم، فقد ادمنتم الطين وتسلق الأشجار كالقِردة، تطيرون مع الحشرات الصغيرة وتزحفون مع ديدان الارض. تركضون حفاة ونصف عراة، وتصرخون كهنود حمر تحلقوا حول النار راقصين.أشار أحدكم الى جهة النهر، الى حيث الدخان الذي انسل خفيفاً من بين الأمواج، ليرسم اشكالاً مرعبة على صفحة السماء، وكأنها شياطين انسلت من جوف النهر. امسك بعضكم البعض وانتم محلقين في الدخان المتزايد، بكى أحدكم وهو ينادي امه، وتبول أخر في سرواله، وصرخ آخر بذعر وهو يتحرك في مكانه بهيستيريا … أما أنت فقد أرخيت فكك الاسفل ذهولاً، وقفت بلا حراك ولا بكاء. تحنط في هذه اللحظة ذهنك الرطب، وانت تثبت نظرك على مصدر الدخان الذي بدأ يتصاعد، ويتشكًل في اشكال غريبة ومخيفة. الاطفال يحثون بعضهم البعض على الركوض، يجر كل واحدٍ منهم الاخر، وانت صامداً وصامتاً في مكانك تراقب الدخان المتصاعد.هرب الاطفال وتركوك وحدك هناك، للظلام والرطوبة والدخان الذي بدأ ينتشر أكثر فأكثر. وفي غمرة تركيزك وصمودك أمام هذا المشهد الغريب، والذي اختلط فيه الدخان بالظلام، بدأت ترتفع ألسنه من النيران، كُنت تراها وهي ترسم لوحةً غريبة على صفحة الماء، ثم تنامى الى سمعك اصوات استغاثة، ترتفع شيئاً فشيئاً.دائرة النيران تتسع أكثر فأكثر، ترتفع الى اعلى مُشكّلةً لوحة ضخمة ومهيبة. تُحدّث نفسك بالهروب ورغبةً مُلحّة بداخلك للصمود اكثر، تتلفت يمنةً ويسرى لا شيء غير الظلام الكبير واصوات الصراصير، بدأ لك أن شيئاً في الماء يتحرك بسرعة، هممت بتحريك قدمك اليمنى وجدتها متسمّرة في مكانها، قاومت لتحرك يديك وجدتهما ثابتتين، حاولت أن تخرج كلمة واحدة؛ تجمدت الكلمات في فمك، لا يتحرك منك شيء سوى عينيك.الدم بارد في عروقك، ونمل يسري في جلدك من الخدر.نداء يأتيك من خلفك لا تستطيع الالتفات اليه، ويدين يحملانك بسرعة، وانفاس شخص لاهثه تمر على وجهك، لا تسمع منه شيئاً رغم أن شفاهه تتحرك. تشاهد الدخان في كل مكان، تسمع اصواتاً تستغيث، ونيرانا تشتعل، واصوات خفيفة لا تعرف مصدرها، ونداءات متكررة.
نصّ [غطاء صوفي ثقيل] الحاصل على تقديرية جائزة نيرفانا للأدب القصصي في موسمها الثاني 2019م.
اترك تعليقاً