في العالم القديم في كوريا الجنوبية، كان اليوسفي رمزًا للحظ. أن تهدى ثمرة منه كان بمثابة تلقيك بركة بالخير القادم، أما في الدراما الجديدة من إنتاج نتفليكس، فإن اليوسفي يتحول إلى استعارة عن صناعة الشاي من مرارة الليمون. إن العنوان الإنجليزي للمسلسل يتحدث عن تحويل أكثر حبات اليوسفي حموضة، التي تلقيها الحياة في طريقك، إلى شاي دافئ ومُسَكِّن للروح.
“إي سون”، فتاة لامعة محاصرة في جزيرة جيجو في كوريا الجنوبية خلال ستينيات القرن العشرين. تقول والدتها، التي تؤديها الرائعة والمبكية يوم هاي ران: «من الأفضل للمرء أن يولد بقرة على أن يولد امرأة في جيجو»، في إشارة إلى أن النساء هناك لا يعدون أكثر من بهائم للحمل والكدح، مثل البقر أو الجاموس، دوماً مكلفات بأثقل الأعباء.
“كنت أحلم بشمس لا تغرب فوق يدي،
بحقل لا تذبل فيه قصائدي.
لكنهم قالوا لي: الحقول للرجال، والمطابخ للنساء.
فتركت قلمي على عتبة القدر، وغسلت أطفالي بالحكايات المنسية.”
وهذه الحقيقة تنطبق على “هانيُّو” جزيرة جيجو الشهيرات، أولئك النساء الغواصات اللاتي يغطسن في أعماق البحر ليجمعن الأصداف البحرية والأعشاب. هن المعيلات، ومع ذلك لا ينلن المساواة أبدًا. وكل منعطف في الحلقات الأربع الأولى من مسلسل «حين تهديك الحياة يوسفياً» يؤكد هذه الحقيقة. والمفارقة أن شخصية “إي سون”، أقرب إلى الثعلب—لامعة ونشيطة—في حين أن “غوان شيك”، الذي يجسده بارك بو غوم، يشبه الثور—صامدًا وقويًا. وبينما إي سون تثور، وتصارع، وتبكي على ظلم الحياة، يظل غوان شيك هو الحاضن الصامت؛ يلبسها حذاءها، يبيع كرنبها في السوق، ويمسّد شعرها بحنان.
“قالوا إن الحب خلاص، فوجدته قيداً من ذهب،
وقالوا إن الأطفال نور، فوجدتهم شموعاً تحترق في يدي.
ومع ذلك، أحببت قيدي، وأضاءت شموعي ليالينا العتمة.”
الكاتبة المبدعة ليم سانغ تشون («حين تتفتح الكاميليا»، «قاتل طريقي») تستعرض مجدداً في هذا العمل براعتها في المزج بين الذكاء العاطفي وخفة الروح. يمتلئ المسلسل بجمل مؤثرة تخترق القلب، مثل: «الآباء لا يتذكرون إلا ما ندموا عليه، أما الأبناء فلا يتذكرون إلا ما خيّب آمالهم.» كلمات كهذه تصيب كبد الحقيقة، لكل من خاض تعقيدات العلاقات العائلية.
يُقال إن الزواج يظل لغزاً غامضاً للغرباء، وأحياناً حتى لمن يعيشونه. وهناك سبب يجعل الناس يرددون أن لا شيء يمكن أن يهيّئك له فعلاً؛ فالمعرفة النظرية بشيء لا تعادل أبداً معرفته بالجسد والعيش معه يومياً. فالزواج، في حقيقته التاريخية والعملية، لم يُصمم أبداً ليحقق سعادة النساء – ومع ذلك، يُقال إنهن بدونه سيكونن تعيسات.
في حياة كل طفل لحظةٌ يدرك فيها أن والديه ليسا مجرد حماة أقوياء لا يُقهَرون، بل بشر عاديون، بعيوبهم وضعفهم. وما يبرع فيه مسلسل «عندما تهديك الحياة اليوسفي» هو كشف هذا التناقض الصارخ في الأبوة والأمومة، وخاصة لدى الأمهات، حيث تتقاطع مشاعر الفرح بالحبس والانغلاق.
“كنتُ أظن أن الحب نار تشتعل في القلب،
لكني وجدتُه جمراً خافتاً في ليالي البرد،
نعيش به… لا نحترق فيه.”
تلعب “آي يو” دور “أوه إي-سون”، امرأة لامعة وخيالية، كان حلمها أن تصبح شاعرة وتتزوج رجلاً غنياً في سيول، لكن هذا الحلم يتحطم بوفاة والدتها. تقع في حب رجل بسيط، “يانغ غوان-سيك” (يؤديه بارك بو-غم)، الذي كان يتبعها منذ الطفولة. بينما كانت “إي-سون” تحلم بأن تصبح رئيسة كوريا، لم يكن “غوان-سيك” يتمنى سوى أن يكون زوجها الأول، أو “السيد الأول”. حياته كلها تدور حولها؛ كل ما فعله، من إهدائها السمك مجاناً إلى مساعدتها في بيع الكرنب، كان من أجل أن يتأكد أنها بخير.
وعندما قيل لـ “إي-سون” إنه لا يوجد مكان دافئ في هذا العالم سيرحب بها، تهرب مع “غوان-سيك” في مغامرة تعمق الفوضى بين جيجو وبوسان. ورغم أنهما قُبضا عليهما خلال يومين فقط، إلا أن ابنتهما وُلدت بعد ثمانية أشهر. لكن قبل ذلك، يمر الاثنان بألم انفصال قاسٍ وكسر عاطفي مؤلم، مصحوباً بعرض زواج من خصم ذكوري متعجرف، وكل هذا يحدث فقط خلال حلقتين من المسلسل. وهذا ليس إلا قمة الجبل الجليدي.
لم تكن والدة “إي-سون” تريد لابنتها أن تعيش حياة الخادمة، لكنها وجدت نفسها، في سن الثامنة عشرة، أماً جديدة، وزوجها بالكاد يبلغ التاسعة عشرة. تلك الربيع في جيجو كان أول رحلة لهما في الحب، لكنها لم تكن الثورة التي حلما بها. إذ لم يكن ذاك الربيع موسمهما لبناء الأحلام، بل لتحطيمها، وقد فعلا ذلك طوعاً.
يتكشف من خلال الطبقات الخفية القضية قديمة: كيف يُتوقع من النساء أن يحلمن بأقل، ويضحين بأكثر، من أجل “المصلحة العامة”، كيف يُطلب منهن البقاء في المطابخ، والإيمان بأن الخسارة مكسب، والرضا بالحد الأدنى.
يأخذك المسلسل إلى حيث تبني “إي-سون” حلمها، لكنها تضطر للتخلي عنه بعد ولادة أطفالها، ويصور هذا التحول بألم شديد. تتنقل القصة بين الأزمنة والعقود، من حكاية “إي-سون” إلى حكاية ابنتها (التي تؤديها أيضاً “آي يو”)، في سردٍ رقيق يكشف التشققات العاطفية تحت روتين الحياة اليومية. تشعر “إي-سون” بالانكسار لكنها تبتسم دائماً، وتقضي عشرينياتها في مطبخ ضيق. حتى حين تكبر، نراها في مشهد تنظف منزل ابنتها.
هذه اللحظات الصغيرة من الإرهاق، والوحدة، والضجر، حين تُجمع معاً، تُظهر الحجم الهائل من العمل غير المرئي الذي تستهلكه الحياة المنزلية. والإخراج لا يفشل أبداً في إظهار هذا القلق الكامن حتى في أسعد اللحظات؛ إنه حاضر دائماً، ينتظر، في زاوية عينك.
هناك الكثير من التردد والمراوغة في الأحاديث الصعبة. وهذا قد يكون محبطاً في بعض اللحظات. التوتر الذي يبنيه المسلسل قد يكون مزعجاً حقاً للمشاهد. لكن هذا هو بيت القصيد. فالقصة كلها تدور حول الضوء والظل، الينغ واليانغ متحرك بإستمرار، فلا خير أبدي ولا شر أبدي، تحولات كونفيشيسية، في اللحظات الكبيرة والصغيرة، عن سر استمرار الزواج، وعن الشروخ التي يمكن أن تظهر فيه.
إنه تصوير دقيق وحقيقي ومدمر للأمومة والزواج وخيارات النساء، حيث تتردد هذه القرارات عبر الأجيال. يروي المسلسل كيف تدفع قلة الخيارات النساء لتكرار نفس الأخطاء. ويعرض بشكل مؤلم كيف أن طاحونة الفقر تطحن الأرواح الهشة، فتقضي على الشباب، وتخنق التعبير عن الذات.
الشيء الوحيد الذي يمنح القصة بعض العزاء هو شخصية “غوان-سيك”، الزوج الداعم، الذي يذهب إلى أقصى الحدود، يتحمل الألم، ويخفي جراحه، ليعيل عائلته. لولاه، لكانت رحلة “إي-سون” أكثر ظلمة. على الأقل، كان لديها نظام دعم قوي؛ لكن في الحياة الواقعية، هذا ليس حال الجميع.
في الحقيقة، يعيد المسلسل صدى الدرس الذي طالما شددت عليه علم النفس: في أي مسعى حقيقي في هذه الحياة، نحن بحاجة إلى القرية كلها.
بكلمات واضحة: الفرد وحده، قطعاً، لا يكفي. بل وحتى العائلة المباشرة قد لا تكون كافية؛ نحن بحاجة إلى مجتمع يتجاوز حدود الأسرة الضيقة.
العلاقات العائلية الممتدة معقدة ومربكة. تبرز فيها إشكاليات الحدود الشخصية حتماً. كما يظهر الوجه القبيح لمجتمع أبوي يفرض تضحيات هائلة على الأجيال الأصغر، ولا سيما على الفتيات والنساء. وعندما يشاهد الجمهور “إي-سون” وهي تتخلى عن حلمها في الالتحاق بالجامعة لتتحمل مسؤوليات العناية بأطفالها وأهل زوجها، فمن الطبيعي أن يشعروا بالحزن على هذا الفقد. وعندما تصدر عن حماتها وجدتها لأبيه كلمات قاسية ومهينة في حقها، فمن الطبيعي أن يشعروا بالغضب من هذا الظلم. لكن في زمن أصبح فيه قطع العلاقات السامة هو الرسالة الافتراضية، تبدو لافتة هذه الصورة التي ترصد تعقيد العلاقات العائلية الممتدة وتقدّر حساسيتها الثقافية.
«حين تهديك الحياة يوسفياً» لا يبالي بتصنيفات النوع. فهو ليس ميلودراما ولا كوميديا، لا قطعة من الحياة اليومية ولا دراسة لشخصية، لا رومانسية ولا غموضاً. إنه كل ذلك معًا: مؤلم حين تكون الحياة مؤلمة، مليء بالمواقف الطريفة، غارق في تفاصيل العيش اليومي، رومانسي بسبب هذا النوع من الحب الذي لا يفنى، وغامض لأنك لا تدري أبدًا ما الذي ينتظرهم في المنعطف القادم. ثمة لغز آخر يكمن في هوية الراوي، لكنني سأدعك تكتشفه بنفسك.
«لم يكن ربيعهم موسماً لإنبات الأحلام، بل لتحطيمها».
بميزانية ضخمة وطاقم ممثلين بارع يصور في مواقع طبيعية، يبدو المسلسل مشحونًا بالحنين، كما أنه مصور بإتقان بصري مدهش. في أحد المشاهد المبكرة، تتحول كوكبة من نجوم السماء إلى خوذات صفراء تلمع على رؤوس الغواصات الهانيُّو وهن يطفن فوق سطح البحر، مشهد بديع. أما المشاهد الليلية فهي نقية التفاصيل، مرسومة بألوان ذهبية دافئة. وفي لحظات الكوميديا، تدور الكاميرا بزوايا تزيد من عبثية الموقف.
إذا لم يسبق لك مشاهدة دراما كورية خارج إطار «لعبة الحبار»، فتأهب لإيقاع أبطأ. أحد جماليات القصص كهذه أنها تتكشف كما تتكشف صفحات كتاب؛ كل حلقة فصل، يكشف معاني أعمق لمشاهد ظننتها بسيطة من قبل. بطلا القصة، الثنائي العنيد والساخر، أمامهما طريق طويل.
العنوان الكوري للمسلسل هو «بوكساك سوغاتسودا»، وهي عبارة باللهجة الجيجوية تعني «لقد عملت بجهد». والمشاق التي يتحملها كل من إي سون وغوان شيك مليئة بالحلاوة والمرارة معًا. بكيت بقدر ما ضحكت، وآمل أن يحدث لك الأمر نفسه.
لم يتبق سوى أن أقول: فلتأتِ الحياة بما تشاء. آمل أن تحمل هذه اليوسفيات الحظ لنا جميعاً.
اترك تعليقاً