للكاتب: ليوبولدو لوجونيس، (قوىً غريبة)، 1906.
ترجمة: علي أرباب
هكذا روى الحاجُّ قصة الراهب سوسيستراتو الحقيقية:
كلُّ من لم تقع عينه على دير القديس ساباس، ليس له أن يحسب أنه قد خبِر “الوحشة”.
تصوّر بناءً عتيقاً قائماً عند نهر الأردن، في موضعٍ تبلغه مياه النهر مُنهكةً، مثقلةً برمالٍ صفراء باهتة، في طريقها نحو البحر الميت، عبر آكامٍ من أشجار البطم وتفاح سدوم.
ليس في تلك الأنحاء كلها سوى نخلةٍ واحدة، تطلُّ هامتها فوق جدران الدير. عزلةٌ عميمة، لا يكدّر سكونها إلا مرور بعض البدو مع قطعانهم من نهارٍ لنهار.
صمت هائلٌ، وكأنه يهبط من الجبال البعيدة التي تطوّق الأفق. وحين تهبّ رياح الصحراء ينزل مطرٌ من رمال، وإن هبّت الرياح من جهة البحيرة كسا الملح ورق الشجر. في حين يختلط الفجر بالغروب في كآبةٍ واحدة. وحدهم من ينشدون التكفير عن جسام الخطايا من يجرؤون على مجابهة عزلةٍ كهذه.
في الديرِ تُسمع أصوات القُّداس وتناول القربان المقدس. والرهبانُ، الذين لم يبقَ منهم سوى خمسةٍ كلهم جاوزوا الستين، يُقرون الحجّاج طعاماً متواضعاً من تمرٍ مجفّف وعنبٍ وماءٍ من النهر، وفي أحيان، نبيذٌ من تمر النخلة.
لا يغادر الرهبان الدير أبداً، رغم أن القبائل القريبة تمحضهم الاحترام، لأنهم أطباء بارعون. وعندما يموت أحدهم، يُدفن في الكهوف أسفل ضفاف النهر، بين الصخور.
وفي تلك الكهوف، تعشّش حمائمُ زرقاء في أزواج، انعقدت بينها وبين رهبان الدير الصّداقة.
منذ زمنٍ بعيد، عاش أولُ النُّساك في تلك الكهوف؛ كان أحدهم يدعى سوسيستراتو، الذي وعدتك أن أقصّ عليك قصته.
فلتهدني العذراء سيدة جبل الكرمل، ولترعني انتباهك، فما أنت على وشك سماعه، نقله إليّ كلمةً بكلمة الأخُ بورفيريوس، الذي يرقد الآن في أحد كهوف دير القديس ساباس، حيث اختتم حياته الطاهرة عن ثمانين عاماً أفناها في الفضيلة والتوبة. فليتغمده الرب بنعمائه. آمين.
كان سوسيستراتو راهباً أرمينياً قرّ قراره على أن يقضي حياته في عزلةٍ تامة، منقطعاً عن صخب العالم مع عددٍ من رفاقه الشبان ممن اهتدوا إلى ديانة المسيح قريباً.
وبعد تجوالٍ طويل في صحراء الأردن، عثروا ذات يوم على الكهوف التي وصفتُها لك، فاستقروا فيها. وقد وفت بحاجتهم مياه نهر الأردن القريبة، وثمار بستانٍ صغير زرعوه بأنفسهم.
فأفنوا أيامهم في الصلاة والتأمل، وأعمدةُ صلواتهم تصّاعد من شقوق تلك الصخور لتسند قبّة السماء المترنحة، الموشكة أن تهوي من إصرِ خطايا العالم.
تضحياتُ هؤلاء المنفيين في تبتّلهم لدرء غضب الرب العادل، كانت جهاداً يومياً من إماتةِ الجسد ومرارةِ الصوم. تضحياتٌ حالت دون أوبئةٍ وحروبٍ وزلازل. وهي حقيقة يجهلها الفُجّار من المستهزئين بورع هؤلاء الرهبان. ومع ذلك، فإن مجاهدة الأبرار وصلواتهم هي عماد سقف الكون التي تبقيه معلّقاً في مكانه.
بعد ثلاثين عاماً من الزهد والصمت، بلغ سوسيستراتو ورفاقه مرتبة القداسة. راح الشيطانُ، وقد مُني الهزيمة، يولول عاجزاً عند أقدام الرهبان القديسين. ثم بمضي الأعوام قضى الرهبان نحبهم واحداً تلو الآخر، حتى لم يتبقَّ منهم على قيد الحياة غير سوسيستراتو.
كان قد صار شيخاً هرِماً بالغ الهُزال، أقرب لشبحٍ منه إلى إنسان. كان يصلي جاثياً على ركبتيه خمس عشرة ساعة في اليوم حتى تنتابه الرؤى. وكان زوج حمائم وليفة يزوره عصر كل يوم ببضع حباتٍ من الرمان تطعمانه إياها بمنقاريهما، ولم يكن يقتات على شيءٍ غير هذا.
وبرغم ذلك، كان يضوع بعطرٍ كزهرة ياسمين في الأصيل.
في كل عام، حينما يستيقظ في جمعة الآلام، كان يجد عند رأس سريره المصنوع من عِصيٍ شُدّت إلى بعضها، كأساً من ذهبٍ مترعةً خمراً ورغيف خبز؛ وبهذه الأقداس، يتناول القربان مستسلماً لنشوةٍ تفوق الوصف.
لم يخطر له أبداً أن يتساءل من أين كان يأتي كل ذلك، إذ كان يعلم علم اليقين أن الرب يسوع قادرٌ على أن يرزق بأي شاكلة شاء.
وهكذا، حمل أعوامه مطمئناً، منتظراً، وقد تهيّأ بكل طهارة ليوم صعوده إلى النعيم السماوي.
كان قد مرّ أكثرُ من خمسين عاماً دون أن يجوز مسافرٌ تلك البقاع. لكن في صباح أحد الأيام، بينما كان الراهب يصلّي بصحبة حمامتيه، إذا تملّكهما الفزع فجأةً فحلّقتا مبتعدتين وتركتاه وحيداً.
عند مدخل الكهف وقف حاجٌّ، فحيّاه سوسيستراتو بحفاوة قديس، ودعاه للراحة مشيراً إلى جَرّة ماء.
شرب الغريب بلهفةِ من أنهكه العطش، وبعد أن أكل حِفنةً من فواكه مجففةٍ أخرجها من جرابه، جلس ليصلي جوار الراهب.
وخلال سبعةِ أيام ظلّ الغريب يروي أحداث رحلته من قيساريّة إلى شواطئ البحر الميت، وانتهى إلى قصةٍ توجّس لها سوسيستراتو:
“لقد رأيتُ جِيف أهل المدائن الملعونة”. قال الغريب لمُضيفه ذات ليلة. “رأيتُ البحر يتصاعد منه الدخان وكأنه أتون. رأيتُ – وقد ملأني الرعبُ – امرأة الملح، زوجة لوط، رأيتها في عذابها. لا تزال تلك المرأةُ حيّةً يا أخي؛ لقد سمعتها تئنّ، ورأيتها تتصبّب عرقاً تحت شمس الظهيرة.”
قال سوسيستراتو بصوتٍ خفيض: “يُحدّث جوفينكوس عن أمرٍ مشابه في رسالته ‘عن سدوم’.”
“أجل، أعرف ذاك المقطع.” أجاب الحاجّ، “وما يرويه أمرٌ ثابت لا مراء فيه؛ امرأة لوط لا تزال حيةً، كامرأة، بجسدها. وقد خطر لي أمرٌ رأيتُ فيه فِعلَ رحمةٍ ونبل: أن أحرّرها من عذابها …”
صاح الرجل المتنسّك: “بل تلك عدالة الرب!”
لكن الغريب، الذي بدا مُلمّاً بالصُحف المقدسة، أجاب برفق:
“ألم يأتِ المسيحُ أيضاً ليكفّر عن خطايا العالم القديم بتضحيته؟ ألا يُطهّر العِمادُ خطايا من سبقوا المسيح كما يكفّر خطايا من أدركوه؟”
بعد هذه الكلمات أخلد الرجلان إلى النوم. وكانت تلك آخر ليلةٍ يمضيانها معاً.
في صباح اليوم التالي غادر الغريب حاملاً معه بركة سوسيستراتو … ولا حاجةَ بي لأن أكشف لك أن هذا الحاجّ، رغم مظهره الحسن، لم يكن سوى الشيطان نفسه.
كانت حيلة الشرير دقيقةً وموفقّة؛ فمنذ تلك الليلة استبدّ بروح الراهب القديس هاجسٌ مبرّح: أن يجري طقس العِماد المُطهّر على عمود الملح، أن يحرّر الروح العالقة فيه من عذابها! الرحمةُ أوحت بالفكرة، والعقلُ أقرّها.
صارع الراهبُ هذا الهاجس شهوراً، إلى أن رأى رؤيا؛ ظهر له ملاكٌ في نومه، وأمره بأن يقوم بالأمر.
صلّى سوسيستراتو وصام ثلاثة أيام، وفي صباح اليوم الرابع، متوكئاً على عصاه من خشب السّنط، انطلق محاذياً نهر الأردن صوبَ البحر الميت.
لم تكن الرحلةُ طويلة، لكن ساقيه المُنهكتين كانتا تحملانه بالكاد. سار يومين على هذه الحال، وظلت حمامتاه الوفيّتان تغذوانه كما اعتادتا. كان يصلي كثيراً مُغرقاً في دعائه، إذ أضنته الحيرة وأعوزه العزم. وأخيراً، حينما أوشكت ساقاه على أن تخذلانه، انفرجت الجبال وتبدّت من ورائها البحيرة.
كانت أطلال المدن الملعونة آخذةً في التلاشي. لم يتبقَّ منها سوى بعض أحجارٍ محترقة: شظايا أقواس، وصفوفُ من آجُر التهمها الملح وغطاها القار …
لم يُعر الراهب هذه البقايا شيئاً من انتباهه، كان باله منشغلاً بمحاولة تجنّبها كي لا تتدنس قدماه بالمشي عليها. ثم فجأةً وفي لحظةٍ واحدة، ارتعد جسده الهرِم من رأسه إلى أخمص قدميه. فتجاه الجنوب، وراء الخرائب، في منعطفٍ من الجبال لا يُبدي ما وراءه عادةً، لمح ظلّ العمود.
تحت ردائها المتحجّر الذي نخَره الزمن، بدت المرأةُ طويلةَ القامة، ناحلةً كطيف. ألقت الشمس بشعاعٍ ناريٍ صافٍ، سَفَع الحجارة وأحال كساء الملح على أوراق البطم إلى مرايا باهرة. تحت الشمس التي توسطت السماء، بدت الشجيراتُ وكأنها من فضة. لم تكن في السماء سحابةٌ واحدة، وغفت المياه المُرّة في سكونٍ آسِن.
يُشيع الحُجاج أن أنين أرواح مدن السهل الملعونة يغدو مسموعاً في تلك المياه حينما تعصف الرياح.
وإذ دنا سوسيستراتو من العمود، عرف أن الحاجّ الغريب كان صدقه القول. رطوبةٌ فاترة غطّت وجه العمود. وعلى عينيه وشفتيه ابيضاضٌ راكدٌ في سُباتٍ دام قروناً تحت سطوة الحجر.
لم يكن على الصخرة أثرٌ واحدٌ للحياة، وألهبت سطحها شمسٌ لم يوهن سطوعها مضيُّ آلافٍ من السنين؛ ومع ذلك، كان الشكل الحجري حياً؛ كان يتصبّب عرقاً!
في هذا السباتِ بعينه تلخصت كل أسرار الهول التوراتي.
ألن يكون من التهور إقلاق هذا النوم؟ ألن يَنقلب إثْم المرأة الملعونة على الأحمق الذي سعى إلى خلاصها؟ أليس في إيقاظ سرٍّ كهذا جنونٌ آثم؟ أم لعله إغواءٌ جهنّمي؟
تحت وطأة الغم جثا سوسيستراتو في ظل شجيرةٍ ليصلي …
كيف قُضي الأمر؟ ليس لي أن أطلعك على هذا. حسبُك أن تعرف أن ماء المعمودية المقدس حينما انسكب على العمود، أخذ الملح في الذوبان، وأمام عيني الراهب ظهرت امرأةٌ، عتيقةٌ كالأبد، لسِحنتها لون الرّماد، وعليها خِرقٌ بالية.
كانت نحيلةً راجفة من ثقل الأعوام والقرون.
الراهبُ الذي طالع وجه الشيطان دون وجل، أفزعه مرأى هذا الطيف. إذا رأى الخُطاة الهالكين ينهضون معها. هاتان العينان شهدتا الكبريت الملتهب ينهمر بغضب الرّب على فجور مدن السهل. تلك الخِرَق نُسجت من صوف أنعام لوط. هاتان القدمان وطئتا رماد نيران الجحيم!
ثم تكلمتُ المرأة المُرهبِة بصوتها القديم.
لم تكن تذكر شيئاً. بعضُ صورةِ غائمةٍ عن نار، وإحساسٌ مقبضٌ بعثه فيها مرأى البحر. كانت روحها تحت غِمار الحيرة، كانت قد نامت طويلاً، نوماً أسودَ كنوم القبر. كانت تتألم دون أن تدري لألمها سبباً، إذ ما زال يغرقها الكابوس.
شعرت بأن الراهب قد أنقذها للتو، ولم تتبين غير هذا الشعور وحده في ضباب روحها المضطربة.
أما البحر … النار … الكارثة… المدن المحترقة … فقد تلاشى كلّ ذلك في رؤيا ناصعةٍ للموت.
كانت على وشك الموت. هذا هو الخلاص الذي وهبها إياه الراهب!
والراهبُ كان يرتجف أمامها، وفي مقلتيه يتقّد لهيبٌ أحمر. غادَره الماضي كما لو أن ريحاً من نارٍ عصفت بروحه.
ولم تعد تشغل باله غيرُ فكرةٌ واحدة: زوجة لوط واقفةٌ أمامه الآن!
انحدرت الشمس للمغيب وراء الجبال، صابغةً الأفق بأرجوانٍ مضطرم.
وكأن أيام المأساة القديمة تشهد بعثاً ثانياً، وكأن العذاب يتجلى على صفحة المياه المريرة.
عاد سوسيستراتو القهقرى عبر القرون. تذكّر. لقد كان له دوره في الكارثة. وتلك المرأة … إنه يعرفُ تلك المرأة!
اندلعت في لحمه كآبةٌ، وتحرّك لسانه مخاطباً الطيف الحيّ:
“يا امرأة، خبّريني بشيءٍ واحد.”
قالت: “تكلّم … سَل …”
“هل ستُجيبين؟”
“نعم … تكلّم … لقد خلّصتني!”
برقت عينا الناسك بذات الوَهج المائت خلف الجبال.
“قولي يا امرأة … ماذا رأيتِ حين التفتّ إلى الوراء؟”
أجابه صوتٌ عقدته الحسرة:
“لا … بحق إلوهيم، لا تسل عن هذا!”
“قولي لي ماذا رأيتِ!”
“لا … لا … ذاك يعني الهاوية!”
“أنا أريد الهاوية.”
“ذاك يعني الموت …”
“قولي لي ماذا رأيتِ!”
“لا أقدر … لن أفعل!”
“لقد خلّصتُكِ!”
“لا … لا …”
كانت الشمس قد غابت.
“تكلّمي!”
اقتربت المرأةُ منه، بدا صوتُها وكأنما غطّاه الغبار، متخافتاً، غارباً، محتضراً.
قالت بتوسّل: “بحق رماد أبويك!”
قال: “تكلّمي!”
ألصق الطيف فمه بأذن الراهب، وهمس بكلمةٍ واحدة.
سقط سوسيستراتو ميتاً في مكانه، دون أن ينبس بصوت.
فلنصلِّ إلى الرب لأجل سلام روحه.
ليوبولدو لوجونيس، (قوىً غريبة)، 1906.
اترك تعليقاً