مقدمة: تمرد الشايقية على سلطنة سنار
في غضون القرن السابع عشر، أصبحت قبيلة الشايقية قوة ذات نفوذ وسلطان، حتى أنهم استطاعوا خلال النصف الأخير من هذا القرن أن يشقوا عصا الطاعة على سلطنة سنار، متحدّين العبدلاب والفونج معًا. وقد حانت لحظة الثورة على بلاط سنار عندما تفاقمت الخلافات الداخلية والمتاعب السياسية.
ويظهر ذلك جليًا في الفقرة التالية المقتطفة من مخطوط عربي نادر كتبه المرحوم الشيخ إبراهيم الشريفي بعنوان “تاريخ السودان المختصر”:
«حكم الملك بادي أبو دقن ستة وثلاثين عامًا، ثم خلفه ابن أخيه أونسة ود ناصر. وفي عهده، سنة 1095 هـ (1684م)، وقعت مجاعة شديدة حتى أكل الناس لحوم الكلاب، وسُمّيت تلك السنة بـ”سنة وأم لحم”. وقد هلكت جموع كبيرة من الناس، وأصبحت الأراضي الخصبة صحارى جرداء، بسبب المجاعة وانتشار الجدري. وظل هذا الملك يحكم في سنار حتى وفاته سنة 1100 هـ، بعد اثني عشر عامًا من الحكم. وخلفه ابنه الملك بادي الأحمر، وكان أول ملوك الفونج الذين خرجت عن طاعتهم القبائل التابعة».
عديلة – الفارسة التي قادت التمرد
كان الملك بادي الأحمر قد أثقل كاهل القبائل بسياسة قمعية، فأراد الشيخ الأمين أرادب ود عجيب أن يفرض السيطرة مجددًا. فقاد ألف رجل من الفونج وغيرهم، ونصّبوا ملكًا آخر اسمه أوكل، مطالبين بعزل بادي الأحمر. ووسط هذه الاضطرابات، برز بطل محرّر تمثل في عثمان ود حمد العمرابي، الذي تمكّن على يده الشايقية من نيل استقلالهم.
كان عثمان ابن امرأة فذة تُدعى عديلة، فارسة مشهورة في تاريخ الشايقية، فاقت الرجال في الفروسية وفنون القتال، وكانت تقود الجيوش، وتخوض المعارك بشجاعة، مما بث الحماسة في نفوس المحاربين. يقال إنها هي من سنت تقليدًا للشايقية، وهو وجود امرأة في طليعة الجيش لتحفيز المقاتلين وإعطاء إشارة الهجوم، وهو ما رصده الرحالة كايو ووادنجتون وهانبري في معركة كورتي. لكن هذا التقليد، على الأرجح، أقدم من تلك المعركة.

وقد كانت عديلة سببًا في إشعال نار الحرب، حين حرّضت ابنها عثمان على إيواء أحد الهاربين من وجه الشيخ الأمين ود عجيب، فزاد ذلك من غضب الشيخ.
عندما علم ود عجيب بأن اللاجئ قد لجأ إلى عثمان، أرسل إليه يخيّره بين تسليمه أو قتله. لكن عثمان ردّ عليه ردًا فيه تحدٍ وكرامة، قائلاً:
“إذا أراد هذا الرجل فليأتِ بنفسه ليأخذه إن استطاع”.
أدرك عثمان أن العاقبة ستكون الحرب، فعاد إلى جزيرة دلقة واستعد للقتال. في المقابل، جهز ود عجيب جيشه وعسكر قبالة الجزيرة، وأرسل إنذارًا إلى عثمان بالتسليم خلال خمسة أيام.
خدعة الخيول وأوهام القوة
كانت قوة عثمان ضعيفة جدًا، لكنه استخدم حيلة بارعة: عرض خيوله للشمس طوال اليوم، وأطعمها علفًا جافًا، وطلّى جلودها بألوان مختلفة كل يوم، ثم أطلقها عند الغروب لتشرب من النيل. وهكذا، بدا لود عجيب وكأن لدى عثمان جيشًا ضخمًا من الفرسان، يفوق قوته الحقيقية بخمسة أضعاف. ففزع ود عجيب وتأخر عن الهجوم في اليوم السادس، وأرسل يطلب المفاوضات.
خشي عثمان أن يكون طلب التفاوض خدعة، فعبر إلى معسكر العدو بمفرده، على ظهر جواده، وتسلل من طرف الجزيرة حتى بلغ ود عجيب، الذي كان آنذاك جالسًا يلعب “المنقلة” مع أتباعه.
عندما نزل عثمان عن جواده، تعثرت قدمه، فأسرّ ود عجيب إلى أحد أتباعه قائلاً:
“إن الله سلمه إلى أيدينا. أسرع واقتله.”
غير أن شايقيًا من أصدقاء عثمان كان حاضرًا، فصرخ باللهجة الشايقية محذرًا:
“وحياة الرب، شرك أم حبيبة في رقيبك طب!”
(أي: انجُ بنفسك قبل أن يقع الفخ في طريقك).
لم يفهم العبدلاب المعنى، لكن عثمان فهم المقصود، فقفز على جواده وفرّ عائدًا إلى دلقة.
خطة الليل
أيقن عثمان أن لا بد من القضاء على جيش العبدلاب بسرعة. فطلب من رجاله تجهيز دوابهم وماعزهم وكل ما لديهم من حيوانات، وربط على ظهورها حزمًا من القش والحطب. وفي منتصف الليل، عندما كان جنود ود عجيب نائمين، سيقَت هذه القطعان نحو معسكر العدو وأُشعلت النيران في القش والحطب. فاندفعت الحيوانات مذعورة نحو الجنود، مثيرةً الفوضى والرعب.
في تلك اللحظة، انقضّ عثمان ورجاله وهم يطلقون صيحات الحرب، فهربت جيوش العبدلاب في فوضى، تاركة زعيمها الشيخ الأمين ود عجيب، الذي أبى الفرار، وجلس على فروته منتظرًا الموت.
لكن عثمان، وقد رآه على تلك الحال، وعده بالعفو إذا ضمن له استقلال الشايقية. فأعطاه ود عجيب المواثيق، ومنذ ذلك الحين تأكد استقلال الشايقية.
هذه هي القصة كما يرويها الشايقية، ولكن من الصعب التأكد من دقتها التاريخية. ويُحتمل أن تكون وقعت نحو عام 1690م، إذ أن ود عجيب نفسه قتله الملك بادي نحو عام 1702م. ويؤكد الرحالة بونسيه، الذي كان في كورتي في يناير 1699م، أن منطقة الشايقية لم تكن آمنة بسبب ثورتهم ضد سنار، ويبدو أنهم حينها بدأوا يتذوقون أولى ثمار استقلالهم.
المصادر:
الشايقية : وصف لقبائل الشايقية وتاريخ مديرية دنقلة من القرن الرابع عشر الى القرن التاسع عشرتأليف : و. نكون – نقله إلى العربية وقدم له وعلق عليه: دكتور عبد المجيد عابدين
اترك تعليقاً