إذا حاولنا أن ننبش في عمق التاريخ ونسبر أغواره فيما يختص بهذا الموضوع الذي نحن بصدده ، سيرتفع حاجباك دهشة عندما تدرك أن القصة الأسطورية وراء ظهور آلة “طوم” الموسيقية عصية على الفهم والإستيعاب لغرابتها ، ولكن لنبدأ أولاً باسمها.
كلمة ” طوم ” عند قبيلة شلو تأتي من المصدر ” طُووم ” الذي يعني العزف ، أو من الفعل ” شا طووم” أو “شيقي طووم” والتي تعني ” هو يعزف” ، ولكن ولمنع اللبس الذي يحدث ، ينبغي أن نعلم بدءاً أن كلمة ” طوم ” بحد ذاتها لا تطلق على آلة العزف مثار الحديث فقط ، بل أن الكلمة عينها تطلق على ضرب من ضروب الرقص عند شلو بجانب: بُول ، كَيب ، أَمَقاق وغيرها.
وتحكي الأسطورة: ” ورد خبرٌ ممن يتمشون على شاطئ النيل أن ثمة أغانٍ حلوة شجية تأتي مسترسلة مع ألحانٍ غاية في الروعة ، ومبهجة للنفس ، وهي تصدر عن مجهول أخفقوا جميعاً في التعرف عليه ، إذ كان الناس يسمعون صوت إرتطام بالماء عندما يقتربون منه ، فاخبروا داك بن مؤسس مملكة شلو المبجل نيكانقو بن أوكوا ، إذ كان داك يمتاز بالسرعة الفائقة ، فتربص بذاك الكائن حتى ألقى القبض عليه ، فوجد أنه هو أبو القدح ( السلحفاة) ، وقد كان ممسكاً بآلةٍ من ذوات الخمسة أوتار تسمى ” طُومْ ” ، لذا يُعْتَقَدُ أن أول من عزف واخترع طوم هو أبو القدح (السلحفاة)، وقد ورثها الأسلاف وورثوها أبناءهم من بعدهم . ومهما يكن من أمر ومن حيث غرابة الأسطورة، إلا أن ما يهمنا الآن هو أن ثمة آلة موسيقية تقليدية مميزة من ذوات الأوتار ، تستخدمها قبيلة شلو وتُعد من موروثاتها الثمينة .
وإن قمنا بتصنيف هذه الآلة الموسيقية فهي تنتمي إلى جنس الوتريات كما أسلفتُ إذ بها خمسة أوتار مشدودة طولياً مجتزأة إلى قسمين: قسم أول به وترين غليظين متطرفين يميناً وقسم آخر به ثلاثة أوتارٍ حادة . إذن نرى أن هذه الآلة الشُّلْكِيَّة – إن صح التعبير- خماسية الأوتار كالطنبور (الربابة) والتي تستخدم على نطاق واسع في السودان الكبير ، شماله وجنوبه ، شرقه وغربه. والجدير ذكره أن آلة الطنبور تعزف عليها قبائل مثل الدينكا والنوير والزاندي- على سبيل المثال لا الحصر- وقبيلة شلو نفسها ، إلا أنها تستخدمها بصورة محدودة لأنها تملك خاصتها وهي ” طُومْ” . ويجد مَنْ يريد التعلم على العزف على آلة طوم أن هناك إختلافاً في طريقة دوزنة أوتارها ، والتي هي في حقيقة الأمر تعاكس آله الطنبور وتختلف أيضاً في تراصها ، فـ “طوم” تُدوزَنُ أوتارها هكذا من اليمين إلى اليسار ، فالوتر الأول G ، الثاني E ، الثالث D ، الرابع B ، والخامس A حسب الإصطلاح الإنجليزي ، وهي:صول Sol ،مي Mi ، ري Re ، سي Si ،ومن ثم لا La وهذه حسب الإصطلاح الإيطالي.

تُعزف آلة طوم باستخدام اليدين الإثنتين ، وكلتيهما تقومان بوظيفتين في آنٍ بإستخدام بعض الأصابع للعزف وبعضها للإمساك بالآلة ، نجد اليد اليمنى وهي المستخدمة للسيطرة على الوترين المتطرفين يميناً ، فتمسك السبابة بالقائمة اليسرى للآلة –ما يقوم مقام السناد في آلة السمسمية التقليدية- وتقوم الإبهام بالعزف على الوترين وتضرب الإصبع الوسطى على الشمسية أي الجزء الأمامي من صندوقها المصنوع من الجلد ليصدر إيقاعاً يُضْبَطُ به زمن المعزوفة ، وقد تُستخدم اصبعان السبابة والوسطى للإمساك وتقوم البنصر والخنصر بالنقر للإيقاع ، ومن هنا يمكننا أن نقول أن ” طوم ” آلة وترية وإيقاعية في الوقت عينه وهذه سمةٌ مميزةٌ مثيرة للغرابة .
تصنع آلة ” طُومْ” من مواد محلية قديماً إلا أن ثمة تغيّر طفيف طرأ مع التقدم حديثاً ، فقد كانت تصنع من تجويف مقوس ينحته صانعٌ ماهرٌ من ساق أيٌ من الأشجار خاصة شجرة الهجليج وعودان مستقيمان من خشب التيك أو الخيزران وغيرها ويستخدمان كالسناد ،وقطعة من جلد البقر أو الجاموس إن وُجِدَ ، وأوتار من خيط النايلون أو العصب من النوع الرفيع الذي يستخدم لصنع الشصوص وشباك صيد أسماك النيل الصغيرة ، وقد قيل قديماً أن الأسلاف استخدموا شعر ذيل حيوان الزراف كأوتار ، ونجد أنه قد استعيض عنها بأوتار معدنية الآن ،كما تستخدم قطعة خشبية تستند عليها الأوتار كالفرسة في آلة السمسمية . ويقال أن من أراد التعلم على العزف ، عليه أن يستعين ببعض كهنة القبيلة لتُقام له طقوس خاصة بعد أن يقدم كبشاً أو تيساً وحيداً لذلك الأمر فيلهمه الأسلاف بقوةٍ وذكاء تعينانه في سبيل التعلم ، غير أن ما يمكنني تأكيده أن طوم مثلها مثل أية آله عزف ، تتعلم العزف عليها إما بالموهبة أو بالإجتهاد كما تعلم كاتب هذه السطور .
وقد برع فنانون كثيرون امتعوا القبيلة ورفدوها بأغانٍ وألحانٍ رائعة في شتى ضروب الشعر كالمدح ، الفخر ، الرثاء ، الهجاء وغيرها على مر العصور أذكر منهم في التاريخ القريب الراحل المقيم بيتر أطياي أوبات ، الراحل الشهير جدًا جون أضوك ، الراحل شول نيالواد ، الراحل أوطو ، الراحل أدوك أتيم الذي انتقل قريباً ، وكذلك الفنان نيالوالدييق والذي لا أذكر إن كان حياً يرزق الآن . ومن الأحياء ممن أعرفهم الفنان جورج أقيط ، الفنان أوبج المعروف بأوبج فقارة ومثلهم الكثيرون ، وقد تلاحظون أن من ذكرتهم كلهم من الذكور ، وهنا ينبغي أن نقول أن طوم آلة ذكورية بإمتياز حسب اعتقادي إذ لم نسمع بعازفة ذاع صيتها بل تجد القبيلة في ذلك عيباً .
كان هذا المقال محاولة متواضعة للكشف عن آلة وترية مغمورة تستخدمها قبيلة من قبائل جمهورية جنوب السودان ألا وهي قبيلة شلو (الشلك) ، ونحن بذا نهدف إلى سبر أغوار ثقافاتنا الرائعة المتعددة ، المختلفة والمتباينة غرض خلق نوعٍ من المثاقفة وإبتدار للحوار الثقافي كمضمار قد يفضي بنا إلى مطلب ٍ جوهريٍ أسمى وهو تحقيق التصالح بين مكوناتنا العرقية.
الصورة الملحقة للراحل أشويل نيكانق (كوديت)..وقد كان ماهرا في العزف على طوم.
الكاتب: سايمون أبرام أوضوك
اترك تعليقاً