طُرُق مجهولة عَرَفَها النزوح

·

·

,

تحرير وتقديم: مأمون الجاك

تأملات وتجارب إنسانية: تقديم مصائر الأفراد ومصير الجماعة

“انفضَّ السامر وقد أصاب الدم المسفوح كل أحدٍ برشاشه، مات الحب أو كاد يموت، كانت الشمس تشرق وتغرب، والقمر يطلع وينزل، والريح تهب، والنهر يجري، والبلد تنام وتصحو، كل شيء قد فقد طعمه ومعناه”[1]

متمثلاً بأبيات على شاكلة: “العرب الذين امتلكوا كل شيء، ثم فقدوا كل شيء”، و”تعال انظر روما -التي تخصك- تبكي”؛ يزعم بورخيس أن مصائر الجماعات لا تقِل حدةً وتأثيراً على النفس من تلك التي للأفراد. يجدُ هذا الزعم تحقّقه البهي في رواية ألبير كامو (الطاعون)، التي تروي، إلى جنب أفعال أبطالها الرئيسيين وحيواتهم، معاناة شعب وهران من وباءٍ اجتاح البلاد، وغناء ذاك الشعب اليائس لحريته وحياته اليومية الضائعة إثر إجراءات الحكومة لمكافحة الوباء.

قُرِئت رواية (الطاعون) لألبير كامو كاستعارة مطولة لفترة احتلال ألمانيا النازية لفرنسا في أربعينيات القرن الماضي، ونضال الشعب الفرنسي ضدَّ المُحتلّ، هذه القراءة للرواية -وإن كانت غايات العمل ومقاصده تذهب إلى مداءات أبعد من الموضعة في السياق السياسي والتاريخي- صائبة إلى حدٍّ ما؛ فالعمل يتضمن تأملات عن الاجتماع البشري في حال خضوعه لخطر يتهدد وجوده، هو وباء مميت في الرواية، أو احتلال في التاريخ. ولعل الاقتباس الذي صدَّرَ به كامو روايته يُعَزِّز هذه القراءة، فهو يقتبس لدانييل ديفو:


“It is as reasonable to represent one kind of imprisonment by another, as it is to represent anything that really exists by that which exists not”.

ولعل هذا العمل، الذي يَسرد معاناة سكان مدينة ساحلية في الجزائر من تفشّي الطاعون، من الأعمال النادرة في الأدب التي نجحت في تمثُّل جماعة بآلاف الوجوه الخفية وشتى طرائق العيش، ساطعة الحضور داخل العمل سطوع حضور أبطال الرواية المرئيين والمُعيَّنِين بأسمائهم وأفعالهم.

تستمدّ الكتابات الشخصية عن الحرب، وسرد تجاربها وأهوالها، قِيمتها من المُفَارَقة القديمة بين الحياة اليومية، أي ما هو معتاد ومألوف، وبين التاريخ أو ما هُوَ سامٍ وجليل. وللتاريخ كما نعلم جلالةُ القِدم، ثم هو عند البعض؛ أيَّاً كانت الدروب التي يقطعها، يمضي نحو غايةٍ كبرى؛ دنيويَّة كانت أم دينية، ومِن ثَمَّ فكلّ أحداثه ذات معنى؛ سابق مستمدّ من وعي الجماعة كان، أو لاحق سيتكشَّف في قادم أيامها.  ونعني بالتاريخ؛ في هذا  الموضع، الأحداث المفصلية في حياة الجماعات، والحرب إحداها. ونعني به كذلك اللحظة التي تفسح فضاءً شاسعاً للحظات تاريخية منسيَّة للتجلّي والمثول للعقل، أي إتاحة اللحظة التاريخية لكلِّ ماضي الجماعة أن يَحِلَّ فيها، وبذلك فإنها تُفَسِّر الماضي وتتنبأ بالمستقبل، بهذا المعنى الرمزي والأسطوري، أي امتلاء اللحظة اليومية بالتاريخ، نُقَارِب التجربة الإنسانية، والسودانيون عاشوا هذه اللحظة؛ من قبل، في ثورتهم، ثم تجيء هذه الحرب، لتَمْثُل في زمنها أزمنة قديمة. حَوَت لحظات الحرب تجارب إنسانية مرهفة وحادة، ودفعت من لم يُجَرِّب الكتابة ليكتب، وأخرست، حتى حين، لسانَ الفصيح؛ فاجتياح التاريخ للحياة اليومية مهولٌ وفادح، وها هنا جَمَعتُ شيئاً مختاراً من التأملات الشخصية، والذِكَر المفعمة بالتوق والحنين، أو النصوص التي تحكي شعوراً عنيفاً يهزّ كاتبها وقارئها، ليضيء هذا الجانب الإنساني الشخصي حَلكَة المَقاتِل، وليُسمِعَ أصواتاً لأفراد، في مناطق متباينة، إلا أنهم الجماعة التي نَنشُد، وتُنشِد هي وجودها المحفوف بالعدم، وبقاءها المُحَاصَر، وتغنّي مبعثرةً، في يأسٍ مشوبٍ بالأمل، وَحدتَها وتوحّدها المُبتَغَى.


[1] (ضو البيت بندرشاه)، الطيب صالح، مرجع سابق

طُرُق مجهولة عَرَفَها النزوح

الكاتب: يوسف حمد

“… كانت الحلوق جافة تزدرد هواء الصحراء الساخن، ولا أحد من الركاب الذين امتلأت بهم الحافلة يرغب في التعليق على شيء! فقط العيون، كانت تتحرَّك متعبة داخل محاجرها، ذابلة، واجفّة، دامعة، ساهمة وكَسِيرَة.

أصوات الرصاص والانفجارات بعيدة مرة وقريبة مرات.. كان كل شيء في تمام الوضوح. إنه الوضوح الذي تلهمه التجربة لا تجريدات العقل والخيال: هنا حربٌ تدور وسط الأحياء ويغذيها الاغتصاب والسلاح الفتاك القاتل. وهنا أناس يموتون بلا سبب مُقنِع، وربما تكون أحد الموتى وطعاماً للكلاب الضالة في أي لحظة!.

… لم يكن لهذا الطريق الذي سأسلكه ذكرى في العصر الحديث إلا في ملاحم شعراء البطانة الصعاليك، أو نظم الشاعر إبراهيم العبادي الذي سرد شعراً واقعة مقتلة (طه البطحاني) و(ودكين الشكري) حول الحسناء (ريا بت أب كبس).

خرج طه البطحاني من أطراف البطانة إلى شندي وجارتها مدينة المتمة، خرج متأبطا ابنة عمه ريا التي تعلق بها الزعيم ود دكين خارقاً تقاليد الغرام والزواج المرعية. وفي الطريق لحق ود دكين بطه، وجرت بينهما مبارزة بالسيوف انتهت بمقتل ود دكين العاشق المتطلب.

وربما في جزء من هذا الطريق الموحش أيضاً سار المك نمر، الزعيم القبلي الغيور، وذلك في رحلته إلى الحبشة بعد أن قتل الغازي إسماعيل باشا، ابن محمد علي باشا المستعمر الأول للسودان.

وإذا كان شعراء البطانة وصعاليكها يقطعون هذه الفيافي كيفما اتفق لهم من الأيام والساعات، فإن الحافلة احتاجت إلى 13 ساعة من الجري المتواصل في منطقة صحراوية حتى تصل إلى وجهتها الأخيرة بسلام، وتتجنب ما أمكن مرمى امتدادات الحرب.

بعد كل هذا، هل جاز، على سبيل التطيّر، أن نربط هذا الطريق بالموت والاقتتال والأزمات؟ ربما ليس بعد”[1].


[1] (الإفلات من الحرب إلى تداعياتها)، يوسف حمد، 30 يوليو، نشر بموقع (مواطنون).

مشروع سكة لأرشفة وتوثيق الثورة السودانية
انتهى جمع وتحرير المواد: سبتمبر 2023


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *