تقدمة للمختارات الأدبية
تم الجمع والإختيار للنصوص بتاريخ 27 سبتمبر 2023م
اختيار وتقديم مأمون الجاك
في الأعمال السردية التي قرأتها ثمة طريقتان لإظهار وعي شخصياتها المُتخيلة بلحظتهم التاريخية الحاضرة “في مُتخيل الواقع والتاريخ”، وبموضعهم في الزمان والمكان، فشخصيات كونديرا مثلا -بسبب من مرجعياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية- شديدة الوعي بالتاريخ، وفي رواياته غزا الاتحاد السوفييتي التشيك أكثر مما غزاها في الواقع. لذا في نصوصه يمتد حضور التاريخ في شكل ثرثرات حوله أو أحداث مؤثرة بعينها تعاد روايتها أو محاكاة ساخرة لشخوص تاريخية.
كذلك فإن رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، تتضمن وعياً دقيقاً بالتاريخ ومساراته وأوهامه كذاك، وتحمل شخصياتها -بطبيعة الحال- وعياً متفاوتا بالتاريخ، فهو عند محيميد كما كان عند ستيفن ديدالوس -أحد أبطال رواية جيمس جويس (عوليس)– كابوس يرغب في الاستيقاظ منه.
الطريقة الأخرى وإن بدت بعيدة عن التاريخ، إلا أنها ربما كانت هي الأدق في وصف أثره، فهي لا تُعنى بالمؤسسات الصانعة للتاريخ أو بالشخصيات المؤثرة فيه، ولا تذكر مُباشرة انتماءات الشخصيات المتخيلة، وفيها تقبع الحقبة التاريخية للعمل إلى الوراء قليلا، لتتجلى فجأة في حدثٍ مربك ومبلبل لحيوات أبطال الرواية. أعمال الروائي الجنوب أفريقي جون مايكل كوتزي نموذج جيد لهذه الطريقة. فروايات (حياة وزمن مايكل ك) أو (خزي) أو (في انتظار البرابرة) تجري أغلب أحداثها إما في زمن الحرب الأهلية، أو أن الانعطافة المركزية في حبكة العمل تحدث بسبب أثر من آثار الحرب ونظام الفصل العنصري، أو يكون العمل كله قصة رمزية مطولة لبلدٍ ينتظر برابرة لتدميره. في (حياة وزمن مايكل ك) وصف لمعاناة شاب أبله، يضطر للنزوح من العاصمة لإحدى القرى النائية، لتنفيذ وصية أمه المريضة، التي رغبت في أن تعيش أيامها الأخيرة هناك، بعيدا عن المدينة المحتربة، ولكن بسبب حالة الطوارئ المعلنة يفشل مايكل ك في أن ينقل أمه إلى قريتها، تموت هي في الطريق، ويواصل هو إلى الريف الذي تصله الحرب بعد مدة، لينتهي بعد فترة في مخيم للنازحين، ويعود بعدها ليرى المدينة وقد تم تدميرها.
في (خزي) تتبدل حياة أستاذ جامعي، ويفقد وظيفته ومكانته الاجتماعية إثر اتهامه بعلاقة جنسية مع إحدى طالباته، يرحل الأستاذ إلى الريف للعيش رفقة ابنته المِثلية، وهناك، في إحدى لحظات غيابه، تغتصب البنت من جيرانٍ لها، والمبرر الوحيد لذلك الاعتداء عندهم هو الانتقام من عِرقِ الفتاة وإذلالها، وهو ما سيحاول الأب تعزية ابنته عبره، أي أن الذنب هو ذنب التاريخ لا ذنبها.
أما (في انتظار البرابرة) التي تأخذ اسمها وجزءاً من حبكتِها من قصيدة ذائعة لقسطنطين كفافيس بنفس الاسم، وتأخذ طابع عالمها ومزاجه من قصة كافكا (إبان بناء سور الصين العظيم). قصيدة كفافيس ساخرة، وهي تحكي أن أهالي روما وشيوخ برلمانها عطلوا حيواتهم اليومية وأعمالهم في انتظار غزو البرابرة، ويتساءل راوي القصيدة عن السبب في توقف أعمال عدة فتكون الإجابة: لأن البرابرة قادمون. لا يصل البرابرة في نهاية الأمر، لتختتم القصيدة بهذه الأبيات:
لأن الليل قد أقبل ولم يأت البرابرة
ووصل بعض جنود الحدود
وقالوا إنه ما عاد للبرابرة من وجود.
والآن؟ وبدون البرابرة، ما الذي سيحدث لنا؟
هؤلاء البرابرة كانوا حلا من الحلول
المنبع الآخر للرواية هو قصة كافكا عن بناء سور الصين العظيم، وغاية بنائه هي صد قبائل الشمال المرتحلة، لكن راوي القصة -وهو بناء شارك في العمل- يشكك في جدوى هذه الغاية بسبب طريقة بناء السور المتقطعة لا المتصلة، مما يترك فجوات وثغرات ينسل عبرها العدو، وفي القصة تأملات وملاحظات بديعة في المعمار وفي صلة الوعي البشري به، وفي الإمبراطورية الشاسعة وصلة مركزها بأطرافها المنقطعة بسبب أن الحركة من المركز إلى الهوامش تضيع في اللا متناهي، وككل نص لكافكا فهو يتضمن سخرية من مساعي البشرية الهائلة أو المتواضعة. في مزيج من هذين النصين يبني كوتزي روايته عن مخاوف عاصمة دولة من غزو برابرة متوهمين، وملاحقتها لقبائل الرعاة على الحدود لاشتباهها بهم، وراوي العمل قاضٍ واسِع الأفق بُعِثَ إلى حامية حدودية، وصادف تواجده هناك اعتقالا لرجل وابنه اشتبه بانتمائهما للغزاة وتم تعذيبهما بشدة، يموت الأب، ويشفق القاضي على الصبي، لكن ليس بمقدوره فِعل شيء لصرامة الإجراءات المتخذة ضد أي خطر متوهم، ويقضي القاضي أيامه ولياليه في التأمل ومساءلة النظام أخلاقيا وفي تكوين صداقة مربكة مع أحد القادة العسكريين، متداخلا مع سُكانِ الحامية، ومتابعا لحركة تترى من الأسرى تبعث بهم سرية جنود بعثت لتفقد الحدود.
في أسطر قليلة في بداية رواية (الحمامة) يشير باتريك زوسكيند عَرَضًا إلى التاريخ الكبير الذي كون الشخصية المهزوزة لجوناثان نويل، ففي طفولته، اختفى والداه فجأة، إذ أخذا لمعسكرات اعتقال اليهود من قبل ألمانيا النازية، هذه الخسارات المُشار إليها في اقتضاب تفسر إلى حد ما عجز جوناثان وخوفه غير المبرر من أي حدث في حياته، وإن كان بسيطا، كحمامة في الرواق.
هذا الاجتياح الفادح للتاريخ للحيوات اليومية يأخذ شكل استعارة مريرة، ففي رواية (حياة وزمن مايكل ك) ل ج.م. كوتزي ترغب والدة مايكل ك، العجوز المحتضرة، في العودة إلى مسقط رأسها في قرية بجنوب أفريقيا، لتقضي أيامها الأخيرة، وتلح على ابنها الأبله والمشوه منذ ولادته والذي لا يفهم أو يجيد في حياته سوى بعض الأعمال اليدوية، أن يحملها إلى هناك. ولأنهما بلا أقارب ولا يملكان شيئا، يصنع مايكل عربة صغيرة شبيهة بعربة نقل المشتريات، يضع أمه داخلها وتبدأ رحلتهما في ليلة باردة، في الطريق يجدان كل الشوارع مسدودة بجنود الجيش -المنفذين لحالة طوارئ تشمل البلاد-، ويُمنع السير فيها، فيضطران إلى التنقل عبر الغابات والهرب من قطاع الطرق، لكنه لا ينجح في إرجاع والدته إلى قريتها، لأنها تموت أثناء الرحلة.
في مشهد أقل مأساوية؛ يصف إدوارد سعيد في مذكراته (خارج المكان)، رحلة عائلية إلى القدس عندما كان صغيرًا، حيث اضطرت عربة الأسرة للتوقف فترة طويلة في انتظار مرور الدبابات وناقلات الجنود البريطانية الذاهبة إلى الحرب العالمية الثانية.
تمنحنا هاتان الصورتان نموذجًا لمصير مُفجع واستعارة مريرة لشيء يحدث الآن ودومًا:
الاختراق المستمر من قبل التاريخ – متمثلا في جيوش وقوى أيديولوجية محركة له– لحيواتنا اليومية واستيلائه عليها، والانتهاك الذي لا سبيل إلى وقفه. على التاريخ أن يمر، غير آبه بنا، و لكي ننجو من الانسحاق والتحطيم علينا أن نتوقف أو نغير مسارنا.
بالنسبة لطفل صغير وأبله لم يعيا بعد معنى التاريخ، ولا قدرة لهما على الفعل، على المشاركة في إنتاجه – ككل الهامشيين- لا سبيل لهما سوى الاكتفاء بالتأثر به وعدم الوعي بهذا الأثر حتى.
هذه النصوص الأدبية المختارة، المكتوبة في زمن حرب الخامس عشر من أبريل، تتخذ إلى جانب قيمتها الجمالية، قيما أخرى ذات بعد إنساني في حفظها آلام الأفراد ومعاناتهم الفائقة حيال الحرب فـفي نهاية الأمر فإن “التاريخُ يكتب مستريحَ الضمير أنَّ الحرب قد انتهت، وآنَ أوانُ الاحتفال؛ لأنَّه لم يعُدْ يسمعُ صوتَ البنادق التي انطفأتْ، لكنَّ الأدبَ وحده هو من يظلُّ ساهرا مؤرَّقاً يصغي لدويِّ طلقاتها في الدهاليزِ القصيَّةِ للروح، ويتسمَّع لدبيبها وهي تتجمَّعُ مرةً أخرى قطرةً قطرةً ، الحرب التي انتهت ظاهريا، لكنها ما زالت تنشب مخالبها في خلايانا، وفي أحلامِ أطفالنا، وفي مخازن الأسلحة التي تتراكم بعيداً عنَّا – الأسلحة التي تنتظر شركاتُها بصبر لتمزِّق جلودَنا كضباع… ففي أي كتاب من كتب التاريخ يمكن أن نجد أنفسنا في أتون ذلك الجحيم عن علل الحرب التي لا تُداوى؟”[i] ولكن الأدب كذلك قاصر عن بلوغ المأساة، فـ “الخراب أيضاً جنين شرعي للحرب. ما نكتبه هو النسخة المخففة لكل الخراب الوحشي الذي يتجول في عيون الناس أو في نفوسهم. التهشم الملعون لسقف العالم فوق رؤوسنا أكثر وحشية من الذي يقرأه الناس في أضابير الروايات المكتوبة، للنفس الإنسانية فلتر شديد التنقية لما يعبر بالمجال النفسي للشخص/الكاتب، ذلك السقوط المريع للأشياء: حريق، أعضاء بشرية تعرض في مفروش سراً وعلانية، أحلام تذبح في بريق المقولات الدينو-وطنية ، نساء يفترشن أعضاءهن التناسلية في سبيل الوجبات السريعة، فلول من أبناء جيلي في مواجهات دموية مع الماضي منحازين لمستقبل مُبهم وغير موجود بالأساس، الأمم المتحدة تقيم مهرجانات لتكريم ناجين من حروب هي نفسها -الأمم– اليد العليا في تغذية كلابها السعرانة، وبانكي مون في القنوات الدولية يُصاب بالقلق”[ii].
اخترتُ هاهنا ثلاث قصص قصيرة، وعدة نصوص وشذرات تأملية عن الحرب، وبضع قصائد، تكمن قيمة بعضها في وصفها لشعور الفرد في لحظات الخوف والترقب للفاجعة كما في قصة (إنكار) لإبراهيم جعفر مكرم وقصة (سحبٌ داكنة ومغيب باكي) لأيمن هاشم، أو أن الحدث التاريخي في البعض الآخر يظل قابعا في الخلفية، لكن آثاره تتبدى في ثنايا النص وأعماقه، فيمثل أحيانا على شاكلة أسطورة للمدينة كما في قصة عمر الصايم، أو يكون دافعا للترحل والنزوح كما في قصيدة علي مساعد (مسدار القضارف)، أو يتجلى في اتصال عميق بماضي الطفولة مكمن الطمأنينة والأمان، لما عاودت طيورها التحليق في فضاءات المكان بعد رحيل أهله، كما في قصيدة مغيرة حسين حربية. أو في اكتساب العالم اليومي المفتقد لطاقة شعرية مهولة نتجت عن فقدان اتصاله وانتهاكه إثر الحرب، فتستحيل عاديات البيت ومناظره وشتى تفاصيله قصائد ملأى بشعور الانزياح عنها وفقدانها. قبل ذلك هاهنا ثلاث نصوص لشاعرين وقاص، يتأملان فيه صلة الأدب والكتابة بالحرب، وأثرها عليه وعلى مبدعه.
سفاهة الحرب: نسف مخيلتك السردية [iii]
“أنت ككاتب سرد.. موقعك في لب أحداث الحرب وربما بعدها -إن كُتبت لك النجاة- ماذا تبقى لك من خيال تستعين به في إنجاز نص سردي -أيا كان نوعه- بينما ترى وتسمع ما يفوق الخيال؟ صرت عاطلًا عن الخيال، مخيلتك نسفتها الحرب.
في الغالب أنت -ككاتب- تحاول رسم مشاهد سردية تُصور حالة الإنسان أثناء الحرب، تبتغي كشف تأثيرها، وتأثير تداعياتها على المستوى الفردي والمجتمعي والكوني. تنقل الأحداث من منصة واقعية إلى منصة فنية -عملية تجسير بين المنصتين- عبر مخيلتك السردية. تفعل ذلك كي تعكس بشاعة الحرب لشريكك المتلقي. لكن المربك في الأمر -بما أنك كاتب سرد- كيف تكتب وترسم مشاهد من الحرب وهي تفوق الخيال، تتجاوز حدود مخيلتك، كيف تصور واقعًا أنت جزء منه؟ واقع يخلق منك شخصية مركزية أو مساعدة داخل الأحداث. أيقونة تحركها البشاعة كي تُمتِّن حبكة الخراب. تصبح حينها -ككاتب- مُجرد ناقل للأحداث، سارد لمشاهد وصور عشتها وشاهدتها، أو سمعتها من آخرين. تصير حينها مثل المؤرخ، لا فرق بينك وبينه سوى العناصر الفنية التي تتطلبها الكتابة السردية.
حتمًا ستكتب عمّا جرى ويجري من بشاعة، تختار زاوية نظر تخصك وتمارس فعل الكتابة، كذلك يفعل رفاقك من قبيلة الكُتاب، كلٌ من زاوية نظر تخصه، لكنكم ستنقلون واقعا بشعا كُنتم جزء من تفاصيله، وإن كان هنالك ثمة تباين؛ سيكون في اللغة والتكنيك والعناصر الفنية الأخرى في جنس الأدب السردي متعدد المذاهب. غير ذلك.. أنتم الآن لستم سوى عاطلين عن الخيال.. تلك الثيمة التي تُولِّد فيك إحساس المتعة أثناء ممارسة فعل الكتابة، وإحساس الدهشة والإبهار وتلمس سحر الكتابة أثناء القراءة.
ما حدث منذ الخامس عشر من شهر أبريل٢٠٢٣؛ حتى الآن، شيء يفوق الخيال، يتخطى حدود الفانتازيا. هو عبث وجودي ليس إلا. الحرب ببشاعتها أربكت حياة الإنسان، حطمت آماله وأحلامه في أن يعيش آمنًا، مستقرًا، حرًا وكريما. وبسفاهتها نسفت المخيال السري لدى الكُتاب”.
كيف يعيش شاعر حربا [iv]
“كنتُ أرى الحرب قبل وقوعها، كنت في كل يومٍ أرصد إشاراتها، وأتتبع خيوط اشتعالها. كانت كُلّها تكمن في وجوه الناس، وفي علاقتهم ، وفي حزنهم، ومكابدتهم للحياة اليومية؛ وفي الشوارع الشاحبة َوبأطفالها المشردين، ومرضاها، وفي حركة المجرمين واللصوص وقطاع الطرق.
لقد عشت حالة الحرب قبل وقوعها، وتحسرتُ على عجزنا في تحاشيها، وعلى قلة حيلتنا في تلافيها.
حين وقعتِ الحرب، لم أكن أبداً أتوقع بشاعتها؛ لقد ظننت في البداية بأنها اقتتال بين طرفين مسلحين، يوجهان فوهات بنادقهم لبعضهم البعض، وهذا كل ما في الأمر، بيد أن الأمر بالنسبة لي منذ اليوم الثاني؛ أصبح هولاً كبيراً، فتوجهتْ بنادق الجميع ضدنا، نحن العزل، وداخل مساكننا، وضد حقنا في الحياة.
عشتُ تجربة الحرب بكل فظاعتها لمدة ٥٥ يوماً، قبل أن أنزح بمعيِّة أسرتي شمالا.
٥٥ يوماً عشتها تحت وابل الرصاص من كل الجهات، ونحن في كل يوم نستلقي أرضا ويتكوم أطفالي حولي، لساعات، من الصمت والخوف، والشعور المدمر بجدوى الحياة، وكيف لاحقاً أثرت نفسياً وجسدياً على أطفالي وزوجتي، فمنذ وصولنا هنا مدينة شندي ونحن نزور الطبيب بشكل يومي.
أشعر الآن بأننا بشر خارج حسابات العالم، ونتحمل وزر خطأ ماضينا وحاضرنا وحدنا، نواجه ليس الموت وحده، وليس الدمار، وليس الحقيقة، وإنما ظلام مستقبل وجودنا واجتماعنا الإنساني سودانيين. إنُّه شعور مؤسف وفظيع؛ لي كإنسان في المقام الأول، وأب ثانياً وكشاعرٍ ثالثاً ورابعاً.
أفقد الآن القدرة تماما في التأمل، والتفكير، والكتابة، على الأقل في الوقت الراهن، أحتاج وقتاً طويلاً لأحدد كيف أعالج داخلي هذا الشلل الإنساني والإبداعي الذي كنته.
أتحدث مع الأصدقاء في كل مكان، وأسأل سؤالاً واحداً يقلقني، كيف أنجو الآن كي أُؤنسِّن الواقع حولي، وكم من الزمن أحتاجه كي أرى ما يدور من قتل ودمار وتهديد لوجودي. إنُّه أمر صعب ومعقد.
ماذا يكتب شاعر مثلي، ممن عايشوا، حربا، وموتا، وكوارث إنسانية وحماقات سياسية، تغافل عنها ضمير العالم.
قبل أن تقع حرب الخرطوم الحالية، ومنذ أن تفتق وعيي الشعري، كانت الحرب بفظاعاتها تندس بين كلمات القصيدة، حتى تلك التي تكتبها للحب، والحياة والطبيعة، كنت لا شعوريا أدلق مفردة الحرب، لم أعشها ، لكنّها كانت قريبة مني، أتأثر بها، فحرب جنوب السودان مثلا، والتي أدت لانفصاله، وحرب دارفور أيضا كانت تشكل هاجسا كبيرا في مشروعي الشعري، وحاضرة في نصوصه.
الآن وقعت الحرب داخل وجودي، أتنفس روائح الموت، ومشاهدة صور من المعارك مباشرة، أشاهد سواتر القتال، والارتكازات في ساحات، وشوارع الخرطوم، وحول بيتي، أرى الجثث المتعفنة، والبيوت المدمرة، والسكان الخائفين، النازحين، كلها صور ومشاهد تقف أمام بيت القصيدة، وتطرق بشدة للدخول.
عليّ الآن أن أفتح لها هذا الفضاء، وأدور معها في عتمة الذاكرة كي أدلي بشهادة شاهد وشاعر وضحية.
فعندما عجزت كشاعر في المساهمة في عدم وقوعها، أو وقفها، فيجب أن أتحلى بشجاعة المحارب كي أكتبها”.
لم أَعُد صَالحاً للكتابة عن السودان [v]
“لم أعد صالحاً للكتابة عن السودان بعد، إذ أنني سأكتب حينها عن سودانٍ آخر، لم يعد موجوداً، إلا أن الأطفال الذين هُرّبوا، ووُلدوا، أثناء وما بعد حادث البلاد المعتوه، يجب أن يجدوا يوماً ما سيُقال لهم إنهم من مواليده، بل مواليد حربه؛ يجب أن يجدوا صوراً وموسيقى وكتابةً وأهلاً يخبرونهم عن ما كان مدينةً، وكم هو جميلٌ أن تظلّ أجزاءٌ من السودان، إلى الآن، بأمانٍ؛ أُناسها، مبانيها، تاريخها. وكم هو قاسٍ، من ناحيةٍ أخرى، تدحرج قرىً ومدنٍ سودانيّة كُبرى إلى الجحيم في إقليمي دارفور وكردفان أثناء القتال، بل وتدمّر بعضها تماماً. لقد ذبحوا أعيان وأمراء قبيلة المساليت، ما الذي تبقى؟”.
“أصبح كل شيءٍ عنه -لأول مرةٍ- موادَّ مُجرَّدةً ومجازيّة؛ خليطاً من صور وأصوات محادثات وتعليقات وتفسيرات، إضافةً إلى الأحلام والكوابيس (حيثُ تجري وقائع السودان يوميّاً)“.
شُعراء
للكاتب: بابكر الوسيلة
كلُّنا شعراء
الصَّمت الذي تركناه في منازلنا
يرعى الزَّوايا ويتحدَّث في أمرنا
مع المرآة
أشجارنا في الحديقة الحائطيَّة
هبَّت عليها رياحٌ جنونيَّةٌ
فازدادت مع اللَّيل أملاً بالغصون.
الملاءات موسومة بالعراك
تترك آثار أحلامنا في الرَّوائح
الكلمات ذاتُ نسب العائلة
تُنظِّف الغبار عن دَلالتنا في الوُجُود.
الشِّعرُ متروكاً
لمن يُنادي عليه من النَّاصية.
النَّافذة الَّتي ترى كلَّ شيء،
مفتوحةٌ على الكارثة،
ندِّخرها لونسات يوم الرُّجوع.
الملابس معطونة بماء الظَّهيرة في الحوش
لا تهبُّ عليها رياحٌ
إلَّا وقاومتْ بالمشاوير..
الملابسُ في الدُّولاب،
تُجسِّد عملاً مُهمَّاً للحياة وتَلبس
الذِّكريات.
القهوةُ المتبقِّيةُ للتَّاريخ في الإناء،
ترشُف الوقتَ وتنتظر العائدين من مَهمَّة الأمل.
“صباح الخير” لم تنبس ببنت شفة
“مساء الخير” مهمومةٌ بكأسها الأولى
والأصدقاء في خطر.
ملائكةُ الضُّيوف على قفا من يشيلُ
خلف الباب
والمفتاحُ معلَّقٌ في مِشجب لحظة الحرب
أين صريري وقت القصيدة يا آسيا!
الطَّائر يُغنِّي بين رصاصتين
أما زلتَ تذكُر يا صاحبي
عَرَق المسطبة؟
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الله لا ينسى كتابَ الله على المنضدة،
فمن يَفتحُ لوركا على النِّسيان
ومن يقرأ للقتيل الفاتحة؟
شعراء
كلُّنا شعراء
في السَّجدة الأولى
_ قامتِ الحربُ
في الثَّانية
_ اشتدَّتِ الحربُ
في الأخيرة
_ كلُّ أرض الله مسجد.
السَّتائر تُسلِّم علينا كثيراً
هكذا كلَّمتِ الحائطَ بالاشتياق.
شاي الصباح، قهوتُه..
سأل النَّملُ عن رزقه على الأقدام
سأل الذُّبابُ عن شهوة بالزَّنجبيل
سأل القلبُ عن قُبلة ضروريَّة خاطفة.
الباب يَعرِفُ البيتَ ركناً ركناً
البيت يُعرِّفُ الباب ويقول تفضَّلي يا حياةُ..
هكذا يبدأ الحفلُ بالدَّوزنة.
السِّرُّ مهفهِفٌ بصورتك على الحائط
بسمةٌ منك تكفي السَّريرَ لكي يطمئنَّ على البلد.
شعراء
كلُّكم شعراء
فافتحوا الأغاني على النَّهرِ
واسمعوا الأبديَّةَ جيِّداً في حكمةِ المَندلين.
[i] (شظايا من دفتر الحرب)، هاشم ميرغني، 22 مايو 2023، مداميك.
[ii] (الزمنوت: في كل مرة)، منجد باخوس، 31 يوليو، مداميك.
[iii] الهادي علي راضي، 12 يونيو، مداميك.
[iv] الأصمعي باشري، 19 يونيو، مداميك.
[v] مأمون التلب، 17 يونيو، مداميك.
اترك تعليقاً