سلمون تّرقِي

·

·

, , ,

ولدت عام 1975 في بلدة قَلُّوج، التابعة إداريا لمديرية أُم حَجَر، الواقعة على الحدود الإرترية-السودانية-الأثيوبية، والتابعة إدرايا لأقليم القَاش-بَرْكَة الإرتري. لم يمض على ولادتي سوى أقل من عام حتى قام الجيش الأثيوبي، في عهد نظام الرئيس الأثيوبي منقستو هيلا ماريام، بتنفيذ مذبحة راح ضحيتها عشرات الإرتريين والإرتريات من كل الأعمار في مدينة أُم حَجَر. وكان السبب المباشر للمذبحة أن قوات التحرير الإرترية كانت قد إغتالت عميلا تابعا للنظام الأثيوبي في إحدى بارات تلك المدينة. أضطر ذلك مئات الإرتريين والإرتريات للنزوح من المدينة ومن البلدات التي تجاورها في واحدة من أكبر موجات اللجوء الجماعي في تاريخ ارتريا. فكانت أسرتي من بين الأسر التي لجأت الى السودان.

أقامت عائلتي أولا في مخيم للاجئين يقع في إحدى أطراف بلدة حليوة السودانية. أتذكر أن ذلك المخيم كان يتميز بكثرة الزواحف، كالعقارب والثعابين، كما بخيام عجفاء وبمعونات غذائية وطبية شحيحة. لكن ذلك الواقع البائس كان أفضل، بما لا يقارن طبعا، من الرعب الذي تسببه إحتمالات التصفية الجسدية، الإعتقالات وأنواع أخرى من تضييق سبل العيش والإطمئان تحت الإحتلال الأثيوبي.

إنتقلنا، بعد ذلك، الى القضارف. أقمنا في شرق وغرب ديم النور. كانت نشأتي بديم النور قد ساهمت مساهمة فعلية وحاسمة في تشكيل وعيي بالواقع بسبب الحراك السياسي والثقافي، الإرتري والسوداني، الذي كان حاضرا بقوة في مجتمع ذلك الحي. لقد كان مجتمعا راقيا يقبل “الآخر” ويتفاعل معه الى الدرجة التي تجعل حاجز الغربة يذوب. كان والدي يعمل سائق شاحنة على طريق بورتسودان-الخرطوم. لكن وعورة ذلك الطريق السفري السريع، لا سيما عند منحنى ما يسمى ب”العقبة”، لم يلبث أن أودى بحياة والدي في حادث سير مرعب، وكان عمري وقتها إثنا عشر عاما. فوقع، جراء ذلك، عبء تربية ثلاث بنات وثلاثة أولاد على عاتق والدتي. كنت أنا الأكبر سنا بين شقيقاتي وأشقائي. غير أنه كانت لي أخت غير شقيقة، من جهة أبي، تكبرني بأعوام كثيرة الى الدرجة التي كانت تجعلني أحس بأنها خالتي. لقد كانت والدتي سيدة نموذجية فيما يتعلق بمسؤوليات الرعاية الأسرية والتربية، رغم وظيفتها المتواضعة التي كانت عبارة عن “فَرَّاشَة” في مكتبة “خدمة الجامعة العالمية” (WUS)، فرع القضارف، المدعومة من بريطانيا والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين.

كنت ميّالا للرسم خلال طفولتي وصباي. بيد أنني لم ألبث أن توجهت ناحية الكتابة القصصية أثناء مرحلة تتلمذي في مدرسة “وحدة السودان للتعليم المفتوح” المدعومة من قبل بريطانيا والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. فكتبت نصوصا قصصية قصيرة بالإضافة لكتابة للمسرح. كما كان النقد الأدبي يجد إهتماما مني. بيد أن ممارستي له كانت شفاهية أكثر منها كتابية. مارست الكتابة بالتقرينية،العربية والإنقليزية. غير أنني كنت أشعر بميل للكتابة بالتقرينية. كتبت، في وقت مبكر من تلك المرحلة، قصة قصيرة باللغة الإنقليزية كانت عبارة عن “محاكاة” مختزلة لرواية تشارلس ديكنز، قصة مدينتين. لكن أستاذي اليوغندي وقتها، وكان يدعى أوليفر، إنتقد اعتمادي على المحاكاة في تلك المحاولة ووجهني نحو كتابة موضوعات تنتمي الى واقعي المحلي. فجئته بنموذج جديد من كتابة ذات موضوع وأجواء محلية. فأعجبته وأثنى عليها ثناءً بالغا كما حثّني على المواصلة في عين الإتجاه.

لقد كنت أرغب، إذ شارفت على إنهاء ما يعادل العام الثاني عشر الدراسي، في الإلتحاق بمعهد يقوم بتدريس الآداب والفنون. بيد أن تلبية مثل تلك الرغبة لم يكن متاحا لمن هم في مثل وضعي (من اللاجئين) لأن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين كانت ترى في ذلك ترفا. فلم أجد بدّا من الإنخرط في دراسة “دبلوم السكرتاريا والمحاسبة” في معهد “جمعية الشبان المسيحية” (YMCA) المدعوم من بريطانيا والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. ومن جهتي، كنت أرى في ذلك ترفا غير مناسب لي كلاجئ وصاحب قضية.

في تلك الأثناء كنت عضوا نشطا في “الإتحاد العام لشباب وطلبة إرتريا”، التابع ل”الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا”. وفي نفس الوقت كنت منفتحا على المناخ الثقافي والسياسي السوداني العام. كانت الأجواء السياسية والثقافية السودانية قد جادت علينا، ما بين منتصف الثمانينيات ونهايتها، بنماذج مشرقة من المفاهيم والممارسات السياسية والثقافية والأدبية. كنت شغوفا بمتابعة الندوات الثقافية والأدبية والسياسية. تابعت باهتمام السجالات الثقافية والمماحكات السياسية، التي أفادني وأسعدني وألهمني بعضها، وأيضا التي ساهم بعضها في خفض منسوب الديموقراطية الى أن غمرها الوحل. كانت تلك سنوات من المتعة والخصوبة. كانت تلك سنوات إستمتعت فيها بيوميات يحيى فضل الله العوض. أثارتني فيها التناولات النقدية لأسامة الخواض. وقفت فيها عند عوالم بشرى الفاضل وعادل القصاص. إحتفيت فيها بقصائد الفيتوري، محمود درويش، سميح القاسم، محمد مدني، أبو ذر الغفاري، قاسم أبو زيد، محمد طه القدال، محد الحسن سالم (حميد)، عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم. كانت تلك سنوت عشقت فيها أغاني محمد الأمين، محمد وردي، شرحبيل أحمد، أحمد الجابري، أبو عركي البخيت، النور الجيلاني، مصطفى سيد أحمد، فرقة سلام، فرقة عقد الجلاد والأداءات الموسيقية لفرقة السمندل. كانت تلك سنوت أحببت فيها صوت وأداء فيروز وحنان النيل، وهتفت فيها مع جوليا بطرس. كانت تلك سنوات تقويت فيها بأغنيات يماني باريا، أبرار عثمان، ود شيخ، سعيد عبد الله (والأربعة الأخيرون من أعلام المغنيين الإرتريين) ومارسيل خليفة. كانت تلك سنوات شاهدت فيها فرقة الأصدقاء وإفتقدت في نهايتها عبد العزيز العميري. كانت تلك سنوات أحتفلت فيها بمجلة “الكرمل” وبمراسلات محمود دوريش-سميح القاسم بواسطة مجلة “اليوم السابع”.

وبينما كانت إطلالة التسعينيات بداية إفقار للسودان، الا أنها حملت الكثير من السخاء لإرتريا، وفي مقدمة ذلك تحريرها من الإحتلال الأثيوبي. جلسنا في أحضان إرتريا المستقلة، غنينا ورقصنا، وإحتفينا بالكتابات الإبداعية لبعضنا البعض، نحن بعض الأدباء الإرتريين اليافعين، الذين كان من بينهم، على سبيل المثال، عبد الحكيم محمود الشيخ، خالد محمد طه، جمال همد، عبد الجليل عَبِّي، عبد القادر حكيم والغالي صالح.

كذلك تميزت سنوات بداية التسعينيات ومنتصفها بالإحتكاك الثقافي والإبداعي الناجم عن تعرفي المباشر على شخصيات إبداعية سودانية وإرترية. منهم، على سبيل المثال، محمد عثمان كجراي، الطاهر بشرى، منعم رحمة، عادل القصاص، محمد مدني، إدريس أَبَّعَرِّي، سعيد عبد الحي، حامد ضرار، عمار محمود الشيخ، محمد الحاج موسى، أحمد عمر شيخ، مكيئيل أدوناي، داني دافلا، صلاح سينوس وغيرهم.

ومن ثم إلتقيت، في منتصف التسعينيات، بمليكة. أحببتها وتزوجتها. وأطل علينا شام (الآن 14 عاما)، تلاه أمان (الآن 9 أعوام)، ثم هنيبال (الآن 7 أعوام)، وأخيرا، وربما ليس آخرا، بَهَار (الآن 9 أشهر). وبالمناسبة، كلمة “بَهَار” تعني، في التقرنجة، صغير الفيل، وهي صفة تطلق على القوي المحبوب، مسموع الكلمة والمسالم. والفيل هو شعار إقليم “القاش-بركة”، حيث ولدت وحيث عشقت الناس والأرض، وحيث تمت معظم المذابح التي أتت بي كلاجئ الى السودان لأصير، مع ذلك، نوعا ما محظوظا.

أما السنوات الأخيرة للتسعينيات، فقد حملت تجارب، بعضها موجع وبعضها مبهج. الحرب الإرترية-الأثيوبية تعتبر من الموجعات. وبرغم ذلك، كان إنتقالي من غرب إرتريا الى أقصى شرقها، من بَادُوب وسَاسَرِيْب التخوم السودانية الى صحاري الدناكل وأرض العفر التي حضرت إليها عام 1999 وما أزال أقيم فيها. وفيما بعد المهام الرسمية، غدوت مهتما بالآثار القديمة، مثل آثار ممالك الطراز القبل-إسلامي والاسلامي التي كانت ممتدة على الساحل الغربي للبحر الأحمر من أُوْسِيف حتى باب المندب، نقوش سحيقة، وأشعار تالده، إلى جانب إهتمامي بتراث العَفَر ولغتهم، قصصهم وأساطيرهم التي للبحر حظ وافر منها. علاوة على كل هذا، تجدني مهتما بفعالية ثقافية، تدعى “منتدى كسرى الثقافي”. وكسرى هو إسم شجرة السدر في عدد من اللغات الإرترية. ولشجرة السدرة مكانة خاصة لدى شعوب العَفَر، فهي ظل، مكان للتلاقي وغذاء، محط للأساطير ومساكن للجن وغير هذا.

ما أزال أمارس كتابة القصة القصيرة، المسرح، والنقد الأدبي والثقافي بلغتي الأم، التقرنجة. وأيضا ما أزال أقرأ وأتابع – قدر ما تساعدني ظروفي – في القراءة باللغتين العربية والإنقليزية. كتبت قصتين أو ثلاث، قبل قصة “الحمّام”، التي بزغت عام 1996. وكذلك كتبت بعدها عدة نصوص قصصية قصيرة. أنشر في الملفات والصفحات الأدبية والثقافية المحلية. لم أطبع مجموعة كاملة في كتاب بعد.

ثمة من قصة قصيرة قام بترجمتها الى العربية الصديق، القاص المبدع، عبد الرحيم شنقب. سأدفع بها اليكم قريبا بعد أن يفرغ الصديق القاص المبدع، خالد محمد طه، من مراجعتها.

تم اجراء هذا الحوار بواسطة : خالد محمد طه – عادل القصاص

نُشر هذا الحوار في موقع : الحمّام – سودان للجميع


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *