ست نبؤات عن فناء الخرطوم

الكاتب: أيمن هاشم

يبدو أن لعنة الفناء ثيمة أبدية تلاحق السودانيين، فمنذ 13 ألف عام وفي منطقة جنوب الصحراء التي شهدت أولى هجرات الجنس الإنساني من القارة الأم الى جميع أنحاء الأرض، في منطقة جبل صحابة نشبت أول المعارك العرقية العنيفة في منطقة السودان الحالي، لتنتقل اللعنة في التاريخ لسكان المنطقة وجنوباً إلى منطقة علوة (سوبا) ومع قيام التحالف التاريخي للفونج والعرب لتتمظهر اللعنة مجدداً في هيأة (عجوبة) وهي سيدة تسببت في إنهيار أخر الممالك المسيحية والتي من رفاة أبنيتها بُنيت الخرطوم الجديدة التي ظلت اللعنة كامنة في مبانيها القديمة وفي محكيات شفاهية أصبحت نبؤات أو وسماً للفناء.

نبوءةٌ عُمرها ثلاثة قرون – ود تكتوك

وُلِد فرح بن محمد بن عيسى الشهير بفرح (ود تكتوك) في مدينة سنار جنوب شرق السودان. وعاش في القرن السابع عشر أو السلطنة الزرقاء أو دولة الفونج. واشتهر ود تكتوك بالحكمة والفراسة والأقوال الخالدة، وغيرها مما يدلل على نباهته وفطنته. وأيضًا اشتهر بلقب “حلال المشبوك”. توفي ودفن الشيخ فرح في قرية ود تكتوك ريفي سنار، حيث بني له ضريح.. تنتشر مقولة تُنسب للشيخ فرح ود تكتوك:

“الخرطوم تتعمّر لى سوبا وتتفرتك طوبة طوبة”، ليشير حديث الشيخ فرح إلى أنّ الخرطوم يحدث بها معمار، حتى يبلغ عمرانها منطقة سوبا ومن المُفارقات العجيبة أنّ الأتراك العثمانيين استخدموا الطوب الأحمر من بقايا خرائب مملكة سوبا الأثريّة، لرفع قواعد مبنى القصر الجمهوري في الخرطوم، وكان يُسمّى حينذاك «سراي الحكمدارية».

تقع منطقة سوبا شرق جنوب الخرطوم وهي على تخوم ولاية الجزيرة. ويقصد بقوله “بتفكك طوبة طوبة” أي أنها تتحطم تمامًا.

بوندينق/ موندينق – نظارة الرب

في أربعينيات القرن التاسع عشر، وُلِدَ “موندينق بونج” – الذي يعني اسمه بلغة النوير “هبة الرب” – بين قبائل النوير بول غرب أعالي النيل (ولاية الوحدة حاليًّا)، لوالدٍ هاجر من منطقة “نوير جيكانج” وأمٍّ تنتمي إلى “نوير لاو” في جونقلي، كطفل وحيد لامرأة عانت العقم طويلاً، فكانت ولادته بذرة أسطورةٍ تتنبأ بمصائر دامية للسودان. ادَّعى موندينق – الذي رفض أن يُوصف بالإله، مؤكدًا أنه “نبي مرسل” – أن له اتصالاً مباشرًا بـ “كوط ناث” (إله الخلق عند النوير)، ورأى المستقبل عبر “نظارة الرب” التي ذكرها في إحدى أشعاره، كاشفًا عن رؤىً لم يصدقها الناس إلا حين تحققت بدماءٍ سالت في العاصمة الخرطوم.

تنبأ موندينق بصرخة وطنٍ ممزق، فقال:

جاءت نبؤته مكتوبة بلغة الناث (قبيلة النوير) وكانت تعني “ستنهمر الدماء وتسيل من عيني” – في إشارة مبكرة إلى المذابح التي شهدتها الخرطوم في القرن الـ21، كالثورة السودانية (2019م) التي أطاحت بالبشير، ثم حرب الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (2023م) التي حوَّلت الشوارع إلى أنهار دماء. أما نبوءته عن:

 “بقر بطن البقرة أو المرأة الحامل بتوأم“– ففسرها المؤرخون كرمز لانفصال جنوب السودان عن حكومة الوحدة الوطنية الهشة، التي مثلت “التوأم” الذي انشق بشرارة حرب أهلية، كما تنبأ: “الأرض التي ترونها ستعمها حمامات دم“.

لم تكن رؤى موندينق مجرد كلمات، بل سردًا مفصلًا لواقعٍ عاشته الأجيال اللاحقة. فحين أعلن أن الحروب الأهلية “ستجعل أنهار الدماء تتدفق“ كان كمن يقرأ مصير السودان الذي شهد 65 عامًا من الحروب منذ استقلاله (1956)، بدءًا بتمرد الجنوب (1955)، وصولاً إلى حرب دارفور (2003)، ثم الصراعات القبلية الدامية التي لا تكاد تتوقف. حتى تنبؤه بـ”الخرطوم” كمركز للدماء تحقق حين تحولت عاصمة السودان إلى ساحة معارك عام 2023، فسقط المئات تحت القصف، وهجر الملايين، وكأن “نظارة الرب” التي وهبت للمتنبئ قبل قرنَين كانت ترصد تفاصيل الأزمة من بعيد.

أقمار في سماء الخرطوم – نبؤة الشيخ مشلول اليد اليمنى:

رأى الشيخ محمد بن إدريس، مشلول اليد اليمنى في رؤياه التي حدث عنها، وحفظت كمروية شفاهية :  ثلاثة أقمار تأتي من جهة السافل، ثم يأتيهم قمر واحد من الصعيد، فتصبح الأقمار الأربعة قمر واحد، تغشاه سحابة تغطيه، فينكشف منه نور كنور النهار، ثم يخسف القمر بالأرض، فينزل عليه جراد.

وتشهد الخرطوم ظاهرة تعدد الجيوش والمليشيات المتحاربة وجهة السافل في بلاد السودان يقصد بها الجنوب أما الصعيد فيطلق على السودان الأوسط والغربي، وهي إتجاهات متعارف عليها محلياً، بينما تتمثل الأقمار الكثيرة في تشتت الجيوش المتحاربة.

نبؤة الرجل المجهول – (قُمْ يا صاحب الخرطوم، وأفَصِل بين الظالمِ والمظلوم)

تصنف كنبوءة غريبة مكتوبة بلغة وعرة تلك التي وردت في موقع الكتروني قبل سنوات، بالإشارة لمخطوط غامض، زعم أحد الباحثين أنه قد عثر على نسخةٍ أصلية منه بجامعة خليجية – لم يسمها ، صنف المخطوط باعتباره رسالة في “علم الجفر”، تضمن إشارات ونبوءات مطلسمة، تم نشرها تحت عنوان:

(قُمْ يا صاحب الخرطوم، وأفصِل بين الظالمِ والمظلوم)..

يقول نص المخطوط المجهول:

“فرِحت الأصحاب بقدوم المُهاب، وبأتي للموصول والفعل يتحول، بحكمٍ جديد في أرضِ الصعيد، بالحربِ الشديد وتمزيقِ الأبدان، في قتلِ ملك السودان، قُم ياصحب الخرطوم، وفَرِق بين الظالمِ والمظلوم، وحَارِب بالأسحار.”

وورد في المخطوط “ويرحل منك الأوطان، ويُعّمر بك الأكفان، ويأتي الجنود بعساكر القيود، وكتائب الجنود، سبحان الملك الودود ..” حتى قوله ” المهم فالله عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو”

تظل هذه الكلمات برغم لغتها الصعبة والملئية بالطلاسم من أكثر النبؤات المُريبة والتي مليئة بالتفاصيل المشابهة لأحداث الحرب الجارية في السودان.

نبوءة الخرطوم المنسية: حين أنبأ شاعر تيجاني بنهاية المدينة قبل قرنٍ من الزمان

تخفي قصيدة “ود دوليب” لغزاً أشبه بطلسم تاريخي، نُظمت قبل قرنٍ على يد الخليفة محمد ود دوليب، أحد مشايخ الطريقة التيجانية بكردفان الذي عاصر زوال دولة المهدية، ورأى بعينيه حصار الأبيض ولفظ حينها أنفاسه الأخيرة عام 1899، لكن رؤيته تجاوزت زمانه لتتنبأ بمصير الخرطوم نفسها. ورغم أن القصيدة حفرت مكاناً في الوجدان الشعبي، إلا أن نصها ظلّ طي الكتمان، كسرقة سرٍّ دفينٍ لم يُكشف إلا مصادفةً قبل عقدين، حين أظهرها أحد أقارب الشيخ التيجاني مخطوطاً قديماً مكتوباً على ورقٍ أصفر، عليه ختم نقيب الأشراف في مكة يعود لمائة عام، مؤكداً نسب العائلة إلى الإمام علي(كرم الله وجهه)، ومعه صورة من القصيدة التي طالما تناقلها الناس كأسطورة عن:  “ألف بيتٍ تُسمي حكام السودان المستقبليين”، وهو ما تبين لاحقاً أنه محض خرافة.

عبر الزمن، ظلّت القصيدة – أو المنظومة الصوفية – تُلفّ كحجابٍ واقٍ يلبسه خليفة الدواليب، بعيداً عن أعين السلطة، خاصة في عهد المهدية التي شهدت اضطهاداً للطرق الصوفية المنافسة. ولم تُنشر القصيدة كاملةً إلا في نتفٍ ضمن مقالٍ بجامعة الخرطوم، لا يُذكر منها سوى إشاراتٍ غامضةٍ عن “كارثةٍ ستحل بالمدينة”، ربما كانت إرهاصاً بغزو كتشنر عام 1898، أو ربما بنبوءةٍ ما بعديةٍ عن أزمات القرن العشرين. لكن اللافت أن “ود دوليب” لم يلقَ شهرةَ معاصريه كفرح ود تكتوك الذي تنبأ بسقوط المهدية، ولا كشيخ نور الدائم الذي ناضل بشعره ضدها، بل ظلّت قصيدته عصيةً على التصنيف، تجمع بين الرمز الصوفي والإرهاص التاريخي.

اليوم، بينما تُعيد الذاكرة الجمعية ترميم أجزاء القصيدة المبعثرة، يبقى السؤال: هل كانت رؤية الشاعر مجرد صدفةٍ أم نتاجَ قراءةٍ عميقةٍ لتحولات الزمن؟ فقبل سقوط الخرطوم بيد البريطانيين، رأى ود دوليب – كغيره من صوفية ذلك العصر – أن المدينة ستكون مسرحاً لصراعاتٍ دموية، وهو ما تحقق في معارك أم درمان، ثم في انقلابات القرن العشرين الدامية. لكن الأسطورة الشعبية حوّلت النبوءة إلى كيانٍ حي، فكلما اندلعت أزمةٌ في العاصمة، عاد الناس يهمسون: “هذه هي الكارثة التي أنبأ بها ود دوليب”.

نبؤة نوسترداموس البيئية والجفاف العظيم

في كتابه عن سلسلة التنبؤات قدم الفرنسي ميشيل دي نوسترادام”، صيدلاني و منجم فرنسي في كتابه الصادر عام 1555م في إحدى نصوصه بأن ” الأرض الجافة، ستصبح أكثر جفافاً، وسيكون هناك فيضانات عظيمة..” بينما في تقرير نشرته شبكة “سي إن إن” وتورده شبكة روسيا اليوم الإعلامية مؤخراً إن التغيرات المناخية التي يعاني من تبعاتها السودان بشدة يمكن أن تجعل من هذا البلد منطقة خالية من السكان بحلول عام 2060، ويعد السودان في الوقت الراهن البلد الأكثر ضعفا في العالم، وذلك بسبب أوضاعه البيئية وموارده الطبيعية الآخذة في التدهور ودرجات حرارته الآخذة في الارتفاع، بالإضافة إلى شح إمدادات المياه وانخفاض خصوبة التربة وشيوع الجفاف الشديد.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *