رِسالة مِن قلبٍ مُنهك

·

·

,

للكاتب: حمزة موسى

عزيزتي:

تُطاردني هواجس أشياء لا أعرفها، لذا أعود إليكِ كل مرة، أجثو على بابكِ وأطلب أن تسمحي لي بالدخول.
لا أظن أن لحزني ووحدتي فرادة خاصة، بل إنني أعلم – دون شك – أنه في هذا العالم الكريه الكثير ممن يشعرون بالمثل. أفكر فيهم، ترى ماذا يفعلون في هذه الساعة المتأخرة؟ لا أعلم! لذلك أقول إن ألمي مهم لأنه شخصي. إنها مآسٍ لي أنا، لا لشخص آخر.

هل تصدقين إذا قلت لكِ إنني لم أكن قلقاً هكذا دائماً، لكني عندما كنت أصغر سناً كنت منجذباً دوماً إلى الكآبة، لا لشيء سوى فكرة ذلك الإنسان المعذب الذي يحمل داخله هواجس وخيالات من زمن بعيد. أحببت تلك الصورة جداً، أحببت كوابيس كافكا وجنون إدغار آلن بو. أعجبتني تقلبات فيرجينيا وولف، كآبة سيلفيا بلاث، وتشاؤم دازاي. ركضت خلف هذه الوحوش لأصادقها. للحزن جاذبية خاصة، أليس كذلك؟ أردت أن أكون هكذا – أي حزيناً – وعندما يسألني الناس عن الحال، أنظر إلى السماء في صمت ثم أطلق زفرة حارة وأقول بعض الجمل التي لا أفهمها بحسرة مصطنعة. نجحت في الدور، وقليلاً قليلاً لم أعد أتعرّف على نفسي. أنظر إلى المرآة فأرى شخصاً آخر، شبحاً مشوهاً ومقرف الملامح.

استيقظت يوماً وأنا أريد أن أخرج من هذه المسرحية. لقد خدعت الجمهور وأقنعتهم أنني أحمل حكمة ما، لكن جلدي كان قد تغيّر. لذا دائماً ما كنت أقول لكِ “إنكِ تمزقين وجهي”.
منذ أن عرفتك وأنا قلق. إن هذا الذي ترينه ليس مني في شيء، ولا نعرف بعضنا. إن هذا الذي أمامكِ هو كذبة مدفونة تحتها وجهي الحقيقي. أرجوكِ، اضربي بيديكِ هذه التربة القاسية، أزيلي خيوط العناكب عن وجهي بيديكِ. آه! أفكرُ كثيراً، وأكتبُ كثيراً في الآونة الأخيرة، محاولاً منح حياتي بعضاً من المعنى، ولا عزاء لي سوى معرفة أنك موجودة في مكان ما تحت هذه السماء. غريب! كيف لخاطر وجودكِ في مكان ما أن يكون ضرباً من ضروب البهجة والفرح، وأنتِ الآن هناك في تلك البلاد البعيدة، تلاعبين ضفيرتكِ، وتحاولين تعلم وصفة جديدة، وتلوحين بيدكِ للأشجار – تلك التلويحة التي أفنيتُ عمري لأصل إليها، مدينتي الفاضلة، ومعناي وعذابي الأبدي. لا يخطر في بالكِ أن هذه الليالي تمر عليّ كالأمواس في جلدي. سمعت مرة جملة “إن الأشياء لا تنتهي بصورة شاعرية، لكن الإنسان هو من يخلق منها شعراً”. لذا أخبريني كيف يمكن أن أكتب شعراً بعد أن انتهى كل شيء!

شعرتُ برغبة عارمة في الكتابة إليكِ الليلة الماضية، ولشدة وطأة الشعور فكرت أن أنطلق في ذلك الوقت وصولاً إلى منزلكِ، وأن أقول لكِ كل ما يجول في خاطري، فقط حتى يتسنى لي رؤية وجهكِ. ربما حينها أصدق أن لهذه الحياة معنى.
أقول: إني أتألم، تردين: الألم قدر العظماء! هذا الرد السخيف المزعج، من قال إن آلامنا لابد أن تكون ذات معنى؟ إن الإنسان كائن مغرور، يآسي نفسه أنه لابد أن يكون عبقرياً، لاسيما وهو يتألم كل هذا الألم. صدقيني أنه لا وجود لهدفٍ أسمى وراء هذه العذابات والجروح التي تجتاحني، وإذا كنتِ ترين غير ذلك فتعالي! وأمسكي بيدي، وأرشديني كطفلٍ تائهٍ تحت المطر، وخذيني تحت عينيكِ، وجففي عني دموعَ المستقبل، ومنحيني أهم ما يمكن أن يمنحه إنسان لآخر… “الأمل”.
وأنا أخالف صاحب مقولة: إن الأمل كاذب، فهو يعدكِ بغدٍ جميل شرط أن تفقد اليوم. أنا مستعدٌ أن أقايض كل أيامي بغدٍ واحد معكِ.

لا أعرف لماذا تلحُ علي الكتابة تحت زخات الألم. ما الذي سأجنيه من كل هذا الجنون؟ ومن سيسمع ويعيش معي كوابيسي؟
أريد جواباً يغسل النار التي في داخلي، ويعيد يقيني المفقود. تعبتُ من انتظار الحكمة والإلهام وسط هذه الجروح المقززة التي تمتد إلى ما لا نهاية. كنت أطالع كتاب “زهرة العمر” لتوفيق الحكيم وسحرتني أول رسالة إلى صديقه، يقول فيها:
“عزيزي أندريه،
صدقت فراستك، الخيال قد أضاعني يا أندريه. أنا شخص شقي، وليس الشقاء هو البكاء، وليست السعادة هي الضحك. فأنا أضحك طول النهار؛ لأني لا أريد أن أموت غارقاً في دموعي. أنا شخص ضائع، مهزوم في كل شيء، وقد كان الحب آخر ميدان دحرتُ فيه. وإذا كنت تسمع من فمي أحياناً أناشيد القوة والبطولة، فاعلم أني أصنع ذلك تشجيعاً لنفسي، كمن يغني في الظلام طرداً للفزع.”
آه! ما أغرب هذا الشعور! أن أجد نفسي هكذا أتمشى على الورق على لسان شخص لا أعرفه. فأنا أيضاً مهزوم، وليس لدي ما أدافع به عن نفسي ضد شياطيني الداخلية. لكن ما شد انتباهي هو هذا الشعور المشترك بيني وبين كاتب الرسالة. قلت لكِ إن الإنسان كائن مغرور، حتى في الألم. كل شخص يظن أنه يعاني ألماً أكبر من أن يحتمله شخص آخر! ولابد أن لا أحد يفهم معاناته أو يرى دموعه. لكن الحقيقة أننا كلنا نشرب من نفس الكأس في هذه الورطة التي وجدنا أنفسنا داخلها فجأة دون موافقتنا. وبشكل ما تسعدني هذه الفكرة، أن أعرف أنني لست وحدي! ربما لهذا أكتب؛ حتى أحافظ على هذه الفكرة وأقوم بواجبي تجاهها، أن أخبر الناس أنهم ليسوا وحيدين كما يظنون.

هل هذا هو دافعي؟ أن أموت بعد أن أكتب كل ما في داخلي؟ عليّ أن أجد كافكا في عالم آخر كما وجدته هنا. أخبريني، أيتها الرقيقة، أنتِ المُذنِبة في جَعلي أقَع في الحب. لذا تحملي المسؤولية، وأنقذيني من هذه الطواحين التي تهدر داخلي دون توقف.
أنا متعب، أهرب طوال اليوم وراء أشياء كثيرة خوفاً مما ينتظرني، وفي الليل أعود إلى استجداء المعنى. لا أفهم ما الهدف من كل هذه الرسائل، ما أعرفه أنني أقترب من الهاوية، والأرق يدفعني كل يوم إلى الجنون. لذا تعالي! دعيني أنام على صدركِ… قليلاً فقط.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *