رواية عمى الذاكرة للكاتب: حميد الرقيمي

·

·

, ,
عمى الذاكرة” الحرب حين تتحول إلى سكنٍ دائم في الروح
قراءة ومقدمة جمالية بواسطة: إسراء للريس

“لم أعد أجد في وجوه الناس سوى ظلي المكسور، ولا في صوتي سوى صدى الحرب التي تسكن رأسي.”

“عمى الذاكرة” لحميد الرقيمي تضع الحرب خارج إطارها السياسي والعسكري لتعيدها إلى موضعها الحقيقي: قلب الإنسان. إنها ليست رواية عن المعارك أو الجبهات، بل عن الإنسان الذي خرج من بين الركام فاقدًا ذاكرته وصوته، يبحث عن معنى للحياة بعد أن أُطفئت كل المعاني.

منذ الصفحات الأولى، يدفعنا الكاتب إلى داخل وعي بطل الرواية بدر، الطفل الناجي من مجزرةٍ محا فيها الموت المدينة وأهلها معًا. ينجو الجسد، لكن الذاكرة تبقى مقبرة مفتوحة. هنا تبدأ المأساة الحقيقية: ليس في موت الآخرين، بل في نجاةٍ لا تحتمل. الحرب تحوّلت إلى مرض يسكن الدماغ، إلى صمتٍ ثقيل لا يُشفى منه الزمن.

يتقاطع هذا الألم الفردي مع سردٍ متقن يعيد تشكيل التجربة الإنسانية للحرب. الجد يمثل الضمير الباقي وسط الخراب، يحاول أن يمنح حفيده معنى للبقاء، بينما الأب يتحول إلى رمز للغربة والخذلان، والأم إلى ظلّ دائم للحنان المفقود. جميع الشخصيات تتحرك داخل دائرة واحدة من الفقد، لكن بدر وحده يحمل عبء الذاكرة؛ ذاكرة مشوشة، مليئة بالثقوب، لا يعرف إن كانت تنتمي له أم لأشباحٍ تسكن رأسه.

الرقيمي يكتب الحرب كما تُعاش: في الليل، في الخوف، في الحنين، في الاضطراب النفسي الذي يجعل الناجي يرى العالم بعيونٍ محروقة. الحرب عنده ليست حدثًا يمرّ، بل لعنة تُعاد كل يوم في تفاصيل الحياة اليومية — في النوم، في الصمت، في رائحة الخبز، وفي نظرة طفل إلى السماء التي كانت يومًا أمه.

الوجه الإنساني في الرواية يتجلّى في التفاصيل الصغيرة التي يصرّ الكاتب على إبرازها: جَدّ يحمل حفيده على كتفه هربًا من القصف، امرأة تغنّي كي لا ينهار البيت، طفل يتبول على فراشه خوفًا من أصوات لم تعد موجودة إلا في ذاكرته. هذه المشاهد لا تُروى لغايات درامية، بل لتعرية الإنسان في أقصى درجات ضعفه وصدقه.

اللغة مكثّفة وممتلئة بالشجن. الرقيمي لا يكتفي بوصف الخراب، بل يكتب من داخله، بلغةٍ تُشبه أنين الناجين. الحرب هنا تتحول إلى تجربة وعي، إلى امتحان قاسٍ لقدرة الإنسان على البقاء إنسانًا.
وفي قلب كل ذلك، يظهر السؤال الأكبر: ماذا يبقى من الإنسان عندما تفنى ذاكرته؟

الرواية تُقدّم إجابة مؤلمة: يبقى الصوت الخافت في داخله يقول “الله خير حافظ”، لا كيقينٍ ديني بقدر ما هو محاولة يائسة للتمسك بخيط إنساني رفيع في عالمٍ فقد بصره وبصيرته.

“ها أنا أعود من أقاصي الذاكرة التي فقدتها بفعل الحرب، ألملم ذاتي، وأرسم طريقاً أخرى على الأرضيّة التي أوجدني الله عليها… لم يكن من حسن الطالع أن أقابل هذا الكون الشاسع بتذمّر مستميت، وإلّا لماذا خُلقت التحدّيات؟.. لماذا أوجدنا الله ونحن على هذه الهيئة الضعيفة التي بإمكان النملة العابرة أن تنال منها؟.. هذه حجر الزاوية، الطبيعة لا يمكن أن تلقمني نسيمها وأنا منكمش في ضعفي هنا… عليَّ أن أحفر
في الصخر، وقد فعلت كثيراً، منذ ولدت وأنا أعبِّد طرقات حياتي بصبر واجتهاد، وصلت في أحايين وأخفقت في كثير من المرّات، لكنّني لم أسقط، لم أسلّم الراية لأحد سواي، وقد كان هذا السير الوحيد من
نعم الله عليَّ… نعم، أعرف بأنّ الطريق طويلة وشاقّة، وبأنّ الكثير من الضربات ستكون من نصيبي، لكن هذا هو أنا الآن، قدري بين يديَّ، وإذا لم أشكِّله كما أريد فلن يرحمني الله، لن يغفر لي كرمه الذي منَّ به
عليَّ بنفخة أخرجتني على هذه الهيئة العظيمة…
~ حميد الرقيمي، عمى الذاكرة ~

في النهاية، “عمى الذاكرة” ليست شهادة على حربٍ في بلدٍ محدد، بل شهادة على الحرب كقدر بشري، وعلى هشاشة الإنسان حين يتحول العالم حوله إلى ظلامٍ كامل.
إنها رواية عن الذاكرة حين تعمى، وعن الإنسان الذي يواصل — رغم كل شيء — محاولة التذكّر كي لا يموت تمامًا.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *