رواية «العودة إلى السودان»

·

·

, ,

رواية «العودة إلى السودان»

للكاتب صلاح الكفيل

بواسطة: إسراء الريس

تتميز رواية العودة إلى السودان بأنها عمل سردي إنساني عميق، يوثّق من الداخل تجربة جيل يعيش الانهيار الكلي لدولة كانت بالأمس القريب تُقيم توازنًا هشًا بين الحرب والسلام، الأمل واليأس، الداخل والمنفى.الرواية ليست توثيقًا مباشرًا لحرب 15 أبريل، بل تنفتح على حكاية العودة — فكرة الرجوع إلى الوطن لا بصفته مكانًا جغرافيًا فحسب، بل باعتباره سؤالًا وجوديًا محوريًا: “ما الذي يجعلنا نعود؟ ولمن؟ وهل هناك ما يُنتظر فعلًا في هذا الركام؟”تبدأ الرواية بلحظة تناسٍ جماعي للحرب، حيث يختار الأبطال التماهي مع مباراة في دوري الأبطال، بينما القذائف تسقط على منازلهم. هذه المفارقة العنيفة بين الفرح المؤقت والموت المحتوم، بين الهروب من الواقع واندلاقه عليهم فجأة، تمثل بؤرة سردية دقيقة، ينسج منها الكاتب جدلية الحياة اليومية في الخرطوم المحاصرة.

الراوي “بادي” ليس مجرد شخصية، بل هو ضمير جيل، يتقاطع فيه الحب والسياسة، المنفى والانتماء، الحنين والخذلان. علاقته بـ”وردة” تمثل خيطًا رومانسيًا شفيفًا، غير مبتذل، لكنه محمّل بأثقال الواقع: الخوف، الانقطاع، القرارات المؤجلة، العوائق الاجتماعية، وأخيرًا الحرب التي تجهز على كل ما لم يُقال.

اللغة في الرواية تنساب بسلاسة، مشغولة بدقة وتوتر داخلي، إذ توفّق بين السرد الحيّ ولغة الأحلام والكوابيس. في مشاهد بعينها، خصوصًا في مقاطع الحلم والحدس، تصل الكتابة إلى نبرة رؤيوية تشبه ما يُسمّى بـ”الكتابة النبوئية”، دون أن تقع في فخ الخطابة أو الإسقاط المباشر.الأبرز في النص هو حضور الخرطوم. المدينة ليست خلفية، بل بطل حقيقي. من المطار إلى الصحافة، من شارع الميناء إلى كافوري، من الشعبية إلى السوق المركزي، كل بقعة تنبض بالحياة، ثم تنغلق على ذاتها مع تصاعد النيران وغياب الكهرباء والماء. الخرطوم مدينة تنهار ببطء، لكنها تُقاوم بحكايات سكانها، بذاكرة وردة، بشجرة النيم التي صمدت، وبالصوت الذي ما زال يرفض الاختناق.

الرواية تتجنب الكليشيهات السياسية، ولا ترفع شعارات، بل تنظر إلى الواقع من الأرض: كيف يخون الأصدقاء، كيف يتداعى “العربود”، كيف يتحول التديّن المفاجئ إلى احتيال، وكيف تفقد الحب بسبب حزام معطف، أو سيارة لا تعمل.في النهاية، «العودة إلى السودان» ليست رواية حرب، بل رواية ما قبل الحرب، ما بعدها، ما بينهما، حيث تتكثف الحياة في لحظات صغيرة: كوب كركديه في الميدان، رشة عطر اسمها “كلمات”، قهوة في الشارع، مكالمة تفشل، أو انتظار طويل لشيء قد لا يأتي.عمل إنساني، حزين بصدق، عن الحب والخذلان، عن الوطن حين يصبح فكرة مؤجلة، وعن الخرطوم وهي تتحول إلى متحف للدمار والحنين معًا.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *