يعقوب عبد العزيز…
البنت التي ترقد في عينيها بحيرة من القهوة
” لو كنتِ طفلتي لحجزتُ كلّ أعياد العالم تسريحة لشعرك “
((1))
أيضًا وجدت أنّه من الحماقة أن أختار عنوانًا مألوفًا لذاكرتي..
من الحماقة أن أكتب فقط لأكتب والكتابة فعلٌ ثوريّ دائما ما يحتاج النّزاهة
وفي عهد الأقلام الكذوبة، وقصر النّظر وشمعيّة السّمع، في عهد الضوضاء والنشاذ ، وفي عهد الورود التي تموت في حدائق الزّينة
يكون من النّبل أن أكتب لأحنّط خيبة ، أن أكتب لأشيّع شعوراً بانتشاء
فأنا تخيفني الأشياء المُبهجة، تخيفني الأصوات الّتي تعتادها ذئاب وحشتي تخيفني النّساء اللّواتي يخبّئن رغبة القتل تحت أقراطهنّ
وترهقني الرّسائل التي تُكتب لأكثر من مبرّر..
وأقول: في ذاك الزّمان الذي تُلصَق فيه الأطراف بالعلكة لئلاّ تنكسر
ذاك الزّمان الذي يُتّبع فيه ظلّ الفستان وهدير القطارات ووشوشةالعصافير ، والمواء البعيد
ذاك الزّمان الذي يُباع فيه اللّهاث ،في زمان الطّوابع والصّراخ والتأتأة
في ذاك الزمان الممتلئ بأشرار القبيلة، والسفّاحين والقتلة المأجورين
في زمان بائعي الخمور أمام المساجد والخارجين عن الأعراف
في ذاك الزّمان الذي لا يلعب فيه الأطفال في الطّرقات، في زمان انكسار عصا الضّرير
في زمان القبور الجّاهزة والعزاءات العجلى، في زمن النّعوش والصّدأ
وبكلّ هذه الرّغبة في الصّراخ والدّفن أتسائل كيف للإنسان أن يتعوّد على جثّة؟
أجيبيني أيتها الأنثى التي تتآمر عليها البلاد بعشّاقها وفرحها،
بثوراتها وحروبها ، بحزنها وبكائها، ببيوتها وقناديلها التي لا تنطفئ
أجيبيني أيتها البنت التي ترشّ عطرها في قنانين البؤساء لتلطّف يومهم المزركش بالأسى
((2))
إلى البنت التي يسكن في غرفتها ليل الحالمين والمعتلّين
والسائرين خلف النّجوم
مرّة كنتُ منسيًا في بلدٍ ما يوزّع هويّات وهميّة صالحة للموت والحياة
مرّة أنزلتني حافلة تحمل اليتامى إلي أبواتهم
مرّة قالت لي أمّي أحذر أن تقتلك أغنية
مرّة نقعَت في سريري ضفدعة أرملة
مرة نمتُ في دائرة بنصف قُطر
مرة بكيتُ مع قطّة شريدة
مرّة ألصقتُ عجينة الاسمنت على رأسي متوسداً ذاكرة امرأة عمياء
مرّة طعنتُ البحر بمخرز الخيال
مرّة قطفتُ وردة تبكي
مرّة أمطرتْ أرضيّة حجرتي وصعدت القطرات إلى أعلى
مرّة أحصيتُ عدد الشّامات تحت نهد حبيبتي الخائنة
مرّة بكيتُ مِلْحًا
مرّة بِعنا أخي في السّوق
مرّة رقصتُ مع زوربا في المقبرة
مرّة قرأتُ نصًا لشاعر يفوقني حزنًا وخيبة
مرّة غَمَزتْ لي سيّدة تُضاعف عمري مرّتين
مرّة سخِر منّي الأصدقاء
مرّة سَحَبتْ منّي عاشقة كتفها
مرّة عثرتُ على وصيّة ضائعة من أحد الأنبياء
مرّة أحرقتُ روما في حلمي
مرّة بِتْنا أنا والسّرير خلف النّافذة نترقّب غيمة لا تمطر
مرّة رسمتُ في كفّي مطاراً ونمت؛ وفي الصّباح نمى في أصابعي الرّيش
مرّة، ومرّة، ومرّة..
وتقولين: تعال أيها الولد بكلّ ما تحبُل ذاكرتك
تعال أيها الولد الذي يصلح لطعنة أخرى؛ فها هي الشّموس جميعها تشرق من أذرار فستاني
ها هو اللّيل نديم خمرك يناجي ضفائري المسترسلة في السّواد وها هي السّتائر تأمر بالمعروف
ها هي مسببات الموت؛ المهم أن تموت واقفًا كنخلة وتحتك تجري البحار التي طَعَنتْ كبد غربتك بزورق
تخاف الأضواء أيّها الولد الملجوم بمذنّب تعال، فالكواكب تأفُل كلّها في عيد النسيان
تعال من شرودك أيّها الذي لا تحتمل الغياب، تعال بالغيرة التي تغلي في دمك
تخاف الأموات وصدرك مقابر لكل الذين قتلتهم كإشاعة…
ولا كنتِ يومها صادقة كأم ، ولا كاذبة كامرأة تحاول أن تحتضن حفنة ضوء، وفي الحالتين نام فينا الشّعور بالإشتعال
((3))
البنت التي لا تعتنق ديانة الصّدفة وترتّب الأيام كطلاء أظافرها
وأنتِ تجددين المواعيد تأخذين بعضها وتلغين البعض كحاجيات غرفتك المُهملة والمتآكلة
وأنتِ تزيلين الرّواسب من حياتك، وتتركين ديكور الرّوح للفِرجة
أنتِ التي بضحِك الأطفال وضجر الشّيوخ، بقسوة المحاربين وبنعومة الحرير
أنتِ التي لا تصدّق النوارس في أخبار الشطآن ولا الأجنحة التي تنمو في السرير
أو حتّى الريش المتساقط في بهو المنزل
وتقولين:
تعال أيها الولد بكل غضب الطّين فيك ؛ تعال وتوحد معي صلصالا
تعال نرتّب السّنين في رصيف الأحاجي
قلبك العطِش أعرفه جيداً مذ أوّل بلل؛ حين درّب الزّحام
ووقف كمن ينتظرُ عهداً بالمطر
تعال أيها الولد بكل مواسمك
تعال بذبولك يرعاك اخضرار الرّوح
تعال باخضرارك كلّ الأصائص لك عزاء
تعال بمآقيك كل الدّموع لك خريف
تعال بثورانك
تعال بخيبتك النقّيّة
تعال بحزنك النيئ
تعال بجراحك كلّها
مطعون أنت في قُبلة ؟ كل الطرق لك احمرار
تحبّ البكاء ؟ كل قطن الاعتذار لك وسائد واللّيل معمل للتّناهيد
((4))
شروق التي تسرح شعرها بالرّكض وأيامها كبوات لخيول الرّهق
من أين يُشترى الصّهيل والمضمار بذاكرة الحواجز والخطوط الحمراء الممنوعة التّجاوز
وأنا أنتظرُ في نهاية الصّف حتّى مضت عربات الغبار
عزيزتي
وجئتُك أجر الهزيمة وحيداً كحصانٍ مطعون
جئتك بالجّرح المفتوح وبمشارطهم التي تغاضت هفوة العرج
وأنتِ أيّتها الأجاصة النّاضجة تقاومين فيّ رغبة القطف وسلالك قريبة كحُلم بالنّجاة
تكابرين بأقدامك القصيرة
وتقولين : تعال أيها الولد المفخخ بالحكايات؛ تعال بقلبك المتشعّب بالأغصان اليابسة والمطروق لحوجة كجرس كنيسة
قلت لكِ : الكتابة هي الوجه الآخر للإحتراق وأصابعي شمعيّة لا تحتمل
فبأيّ مبرر تتحوّلي إلى قصيدة وتخنقيني بالمعنى
كم يائسين هم الشّعراء والكُتّاب ،كم مُفلس هو المتنبّي ،كم حزينٌ هو العراق
وكم صامدٌ أنا أمام الأمواج العاتية وعينيك بحر الغرق
((5))
البنت التي تتحول إلى حلوى وتغازل حلم طفولتي
حياتي تذوب في شموسهم كقطعة مثلّجات وأنا العجول أرشُّ نادر السعادة في جدران كآبتهم
وعندما آوي إلى مهجعي تؤّنسني دمعة صفراء وأسهرُ شاحذاً بأكمامي البالية ابتسامة لغدِهم
علميني الانتظار في الصّفوف أنا المقدود من بكرة الاستعجال وتنهّد قابلة لم تقرأ الإخلاص
أنا القاعي في موائد الخداع والماشي على جمر المؤامرة
أنا الزّاهد حيث وجهتك
والمؤشّر على رفوف الرغبة الضّارية حيث وشاحك ،كما لم يعد يفعلها اليوم الضائعون في المحطّات وفي المدن الجديدة
وأين الاتجاه يا سيّدة الاتجاهات كلّها ..
أقول : أحتاج البوصلة
وتقولين: تعال أيها الغارق في التّوهان
تعال وخذ كتفي المهم ألاّ تستريح
تعا أيها المُهمل والمنسيّ كسفينة غارقة في قاع محيط
تعال بالرّيشة وبالألوان تعال بعنفوان اللّحظة كلها وعاملني كلوحة
استنطقيّ وخذ غفوتك قبل أن تخرج للعالم
((6))
شروق الواقفة على عتبات سنيني مثل موعدٌ بالقفز
كلّ هذه المرتفعات، كل البنايات يا صبيّة، كل أبراج الشّركات العالميّة، كل جبال الطّبيعة تغريني بالقفز وصدرك وحده الشّائك
حظوظي وحدها العمياء حتّى عندما رشقتْني بك توقّف الأكسجين انغلقت الأنابيب وأنكر العالم حوجته للتنفّس
أقول لك صباحًا : أريد أن أنتحر اليوم يا عزيزتي
الهواء يخنقني
والطّريق طويل
هل تفهميني ؟
أريد (( أن أنتَ حر))
وفي المساء تقولين
تعال بمخاوفك وارتجافك، تعال بإيمانك وكفرك تعال بزندقتك فقط تعال واطرق على الإسفنج
تعال بأعيادك كلها والحقني خلف سور الحديقة..
وتحشين الشوكلاتة بين أوراق دفاترك
متى جمعتِ شعرك المبعثر كأيّامي وحضرتِ حصص ترتيب الحُزن و -أثينا- توقّفت عن الثوران
متى سرقتكِ الصّفوف وكبرتِ حين غرّة ومضيتِ عائمة مثل فراخ الأوِز
متى أفلَتِّ عُنقك من المقصلة التي أقاموا عليك فيها الحدّ بتُهمة الالتفات
((7))
شروق التي تضيء ليلهم وترميني بالشُّهب
وأنتِ ترتبيني كفوضى غرفتك وتعدُيني بخيوط العناكب
وأنت تقرأيني في النّجوم وأحاديث العرّافات تتلمّسين شبحي في الظّلمة
وفي الأضواء الخافتة
في وجوه الحزانى والمقتولين بالعاطفة
بينما أحفظُك أكثر من شحوب وجهك
أكثر من تعرّق يديك ، من شفاهك الكرزيّة ،من رعشاتك الخفيفة داخل أرديتك الشتويّة
من اكتئابك المفاجئ
ومن نبرة صوتك التي تشبه تكسّر الزّجاج
((8))
البنت التي غرست سكّينها في تفّاحة عمري المعطوب
ماذا تعرفين عن التّلويح بيدٍ واحدة أو التّصفيق بأجنحة مقطوعة
ماذا تعرفين عن القفز على الماء بقدم متآكلة
ماذا تعرفين عن ظلم البحار
حتّي تستعيري زوارقي وشمسيّتي وتتركيني انتظر
في ظلّ النّوارس
ماذا تعرفين عن -العَرَق- وأنا لم أنام في صدرك كأيّ كتابٍ للتنمية البشريّة
لكنّك تحبّين المغامرة ولذا سرقتِ منّي التّنهيدة وسريعًا ركبتِ قطار المُكابرة
قلت لكِ مرّة : العالم يتقدّم في الخراب
الأرض تدور بالعكس اليوم
أنظري لها..
لا وجود للفيزياء أو علم الكَم
الفلسفة مجرّد خدعة والمخذولين لا يمشون وأيديهم في جيوبهم دائمًا
لكنّك لم تصدّقيني ولا لمرّة
فأجيبيني اليوم ماذنب دواخلي وكل هذا الدخّان والأتربة المنبعثة منها
ماذنب المدن التي غادرتُها عجولاً كضيفٍ ملِلْ
ماذنب أقمصتي المفضوحة دائما في الخزانة
ماذنب الرّفوف الّتي وضعتُ فيها بضاعتي الكّاسدة ورحتُ أنتظر القّافلة ؛ وهذا العالم يتقدّم في الخراب ويرميني بوردة
يرميني بوردة هذا العالم الذي جازفتُ بمقصٍّ معطوب أن أشذّب فيه حديقتي وأزرع فيها امرأة مصابة بسرطان الثّدي ولا زلتِ يغريك البَتر
من أين غافلتِني ووضعتِ أصابعك على -قطيّة- الرّمال في داخلي ومتى هجمتِ عليّ من جهة النّساء اللواتي يجمعن المصائب في اقتران حواجبهنّ
((9))
شروق التي نفثتُها سريعًا كسيجارة جافّة
كيف تسلّلتِ إلى الجسد الهزيل وانتشرتِ في الصّدر والرّئة والدّم والعظام
هل يغريك السّرطان وأنا لم أنتبه
وهل هناك سرطان أصلاً غير سرطان البلاد الّذي قلّمنا كزوائد وحراشف لا أهميّة لها ورمانا لكلاب المنفى
رمانا بأطراف مبتورة وأمعاء سائلة
رمانًا فتاتًا للدّود والهوام ، رمانا رؤوسًا مطأطأة تمشي بلا أقدام تؤشّر في جميع الاتجاهات ولا تنظر لأعلى
تخاف دمعة الله
تخاف الجلاّد الذي يجلس بكامل جبروته ويومئ بالسّاطور في أي لحظة طالبوا فيها ببؤبؤاً يروا به الحقيقة
كيف أغريتني بالنّظر أكثر ، بالحلم أكثر، بالكتابة أكثر ، وبالتّدخين أكثر مثلُ قطار يطوي السّكك الحديد نحو العدم
لكنك العدم الوحيد
لكنك الثّقب الأسود والنهاية التي لا بعدها؛ وعندما قرأتُ ذلك في صوتك وعطرك برزتِ أنيابك كأفعى داهما شعوراً بالخطر واسترختِ للإنسلاخ من جلدك بلا مقاومة
ووحدك تعرفين مؤامرة الأفاعي
وإلاّ لما تنزّهتِ في الجسد كأميرة من عهدٍ أسطوري ووعدتِ متسورات الحدائق بعدك بالموت
وإلاّ لما تركتِ كل أو شامك على المنضدة وكأنك لا تحتاجين أظافراً اصطناعية في المرّة المُقبلة
وقلت لكِ ذات مرّة أيضًا : لو كنتِ طفلتي لحجزت كل أعياد العالم تسريحة لشعرك…
وبهذا المنطق فقط ترين كم كنتُ مبتذلاً في الأبوّة ؛ أنا الذي لم أنتظركِ مرّة بباقة ورد ، أو بأيّة هديّة باللّون البنفسجي
لكن هاهي ذي حدائقي ملآى بالبنفسج
اقطفي ما يحلو لك ؛ عبّئي سلالك كلّها
هذه الورود محزومة لك مسبقًا وجافٌ هو شَعَري كأكوام العُشب
((10))
البنت التي يغريها صوت النّاي الحزين
وتنبش المدن للبحث عن بحّة منفلتة من رئتي سمِعتها لمرّة واحدة يهمس بها ذئبٌ في البراري، أو تغني بها راقصة في ملهى يرتاده الشياطين بلِحى طويلة
هذه هي حياتي أنفخي عليها بكلّ ما مشّط به اسمي حبالك الصوتيّة وأنتِ تخبئيه في الليل من أختك الصّغرى كفضيحة
وقتيّة
اسمي الذي تسلّق كتفك ، ومسد على شعرك ، اسمي الذي بات مرابطًا عند درج مكتبك والأريكة؛ بين متعلقاتك المنزليّة
وأوراقك الجامعيّة
اسمي الذي لا زال يخضرُّ كسنبلة كلّما نطقته شفاهك
كان صعبًا أن تعامليه كبذرة صالحة
لتمضي به إلى الحقول أو كقلم كحل في حقيبة يدك لئلا تشعري بالسّخف مرّتين
فالجميع جاهز لموسم ما..
الجميع جاهز لصوتٍ ما..
الجميع جاهز لموتٍ ما..
3/4/24/-المهندسين
اترك تعليقاً