أين الطريق؟ “١”
٢٠٢٣
تفرّقت الطرق، أستمع إلى أحاجي التاريخ القديم التي تدُق على أُذني، تدعوني للإنضمام؛ لأصبح منهم.
أكتب هذه الرسالة من قلب الخرطوم، هُنا حيث لا طريق مألوف، بيوتٌ مُعلّقة على حوافِ الإنهيار، و أجناسٌ تترجى أن تكون سرًا مُخبأ.
تمنيتُ أن أنطق “السلام عليكم” و لكنها خرجت”رحمة الله عليكم”.
فبعد السلام و الرحمة، أضعت الطريق إلى السلام، باتت الأرض تسألُني:”أإلى السماء مفرُّك؟ أم الى القبور مسراكِ؟”
في اللّيل، تتلاعب على كتفي أضغاث أحلام. أحلامٍ كانت على نتشةٍ من الواقع، و لكنها نامت إلى الأبد. إليك أيّها القارئ، ربما لم أستطع الوصول.
ضاعت مني كُل السُبل، و سمعتُ أصوات النحيب من البيوت. و تفرّغت أكواب الحليب على الطيور، و أجزاءُ السر تقطعت، لم يتبقّ مني سوى الحبر الجسور.
تتوارى ظِلال المجد خلف القضبان، و تتبدّل أقنعة الحُكم بالزيف، و تصير المُدن مسرحًا للغريب و الوحش، و أحدهم يرمقنا بأعينٍ تحمل ضياع الطريق، شاهد على كل الخراب.
و ها أنا، أتطرّق إلى أولى أحاجي التاريخ، أول سطرٍ “كيف حالُك، أُوصل سلامي الى حين ملاقاتِك و أعزِّ الأماني لرؤيتك”
أحللتُها؟
أتمنّى أن أجد الطريق إليكِ.
ألى المفقودة: الخرطوم
رسالتِي الأولى “٢”
٢٠٢٣.٥.١٥
المُرسِل: إحداهُنَّ
تُمطر السماء نارًا، و تُزرع الألغام الأرضية في كل مربع، فإن أردت المضي قُدما، عليك نُطق الشهادة.
ليس هنالك من مجالٍ لإلقاء التحية، فبعد أصوات القصف و انفجار المنازل، تبكمتُ وأصاب أذني الصمم، فإن أردت إلقاء التحية قُل على قلبك الحب؛ أُعافى.
أحدثكم اليوم من مكانٍ مأهول، مجهول لدى البعض، ومألوف لديه.
ولإزالة الشكوك، لست المخاطِب، لستُ إلا ناقلةٍ للحدث كما هو.
الخامس عشر من مايو مرة أخرى، كما هو العمر وقتها.
عزيزي، في بلادي الحُب أعمى، فإن حدث و أحببت؛ يتحول لون جفناك إلى كوبِ قهوة.
و هذا تفسيرٌ واضح لما تُقطر عيناي مرارة الزنجبيل!
بدأت في نسج خيط كلماتٍ لك؛ ولكن دخان الحرب ظل يتكثف في داخلي غدتْ رئتاي مسرحًا لصراخٍ مكتوم، فكلما حاولت الخيّاطة، تقطعت أصابعي؛ يخترقُها الرصاص.
أُصبت في عينيّ بالرمد، أصبّ أكواب القهوة بالزنجبيل كلّما أراك، و أشدّ حِبال التمسك بالوطن كلما وقعت قنبلة، فإن كنت أنت الوطن، فماذا عليّ أن أشُدّ؟
كما وصفتني، جميلة وذات إبتسامة ساحِرة،
أود أن أُبلّغك، أن جنود الإحتلال غزوا ملامحي كما تغزوا الجنود الارض.
و اتسعت ابتسامتي إلى أن تمزّقت شفتاي؛ شددتها للتمسك بِك، حتّى سقطت، سقط معها الوطن وسقطت أنت، ولا أمل في النهوض، ولا لِقاء مُنتظر.
لن نلتقي إلا في خطابٍ آخر، بعيدًا عن خرائط الحرب.
إلى: حبيبي الذي يُبالغ في الوصف.
رائِحة عجيبة “٣”
بلا تارِيخ.
المُرسِل: ابن المدينة.
(من هُنا يبدأ الطريق، بين أزقة المدينة القديمة، وقصاصات الرسائِل المهترئة، وأعين الحائِرين، رائِحة عجيبة، كأن الهواء يتعطر في كُل حين.)
___
“السلام عليكم، من السُلطة المركزية، إلى القائد ابن المدينة، نود أن نُبلغك،
إما القصاص أو القصاص !”
سيداتي و سادتي، أحدثكم من وسط الساحة الحربية، يهاجمنا العدو بلا رحمة، ويسقط آلاف الشُهداء يوميًا، وتذوب القلوب شوقًا على المحبوب البعيد، وتفيضُ العين دموعًا على الشهيد القريب.
أما بعد:
تبرُز إحدى الرسائل الأخيرة التي كتبها ابن المدينة.
قد كان أن يتمنى المرء المكوث، ويترّجى الميت للمبعوث؛ فلا يجوز إسكات أصوات الطبول.
في آخر تغطية
هُنا العاصمة المقدسة، حيث مُلتقى العظماء
و موطن الشهداء، و على تلك الحافة البعيدة
يقف المهدي بشموخ، و هناك على فوق البرج، يُطل علينا الشهيد قُرشي، يحمل راية لا تقوى عيناي رؤيتها.
فكأنها آخر المعارك، وأبلغ الانتصارات فرحةً، كما كان يتمنى المرء، يبقى الصمت ثقيلاً هذه المرة.
ثقيلاً كأحجار المدينة الخالِدة، يعلو فوقه هدير المعارك، يتراقصُ التراب بفعل دقات الطبول، وتسوق الرياح صرخات الشعب العظيم، حتّى الأرض تودّ لو أنها تصرخ وتثور…
أتمنى أن يكون اليوم مِسك الختام لما قد فات، اليوم الذي تُرفع فيه الرؤوس عاليًا، وتُطوى صفحات الحرب.
هُنا، حيث لا مجال للتردد ولا وقت للإنسحاب؛ فالموتُ يمشي بيننا كصديقٍ قديم، يُرّبت على أكتافِنا، يُذكرنا أن النصر لا يُولد إلا من رِحم التضحية.
وببالغ الحُب، التي شهِدت عليها دموعي الحاذِقة، والأوجّه المُستبشرّة.
أزف إليكم، أن من بداية ذلك الطريق، من بين أزقة المدينة القديمة، شممتُ رائِحة النصر للأبد
وفي إحدى القصاصات القديمة، رسالةٌ من ابن المدينة، كتبَ بقلبٍ مُرتجف:” إن سقطنا سيكتب التُراب اسمائنا، وإن صمدنا؛ ستكتُبها السماء.
احدثكم من وسط الساحة الحربية… “
وإلى الآن، لم تُختم الرِسالة.
يأبناء شعبي العظيم، إن عُدتم ووجدتم المدينة واقِفة، فأعلمو أننا لم نسقُط
فإن عُدتم، إبحثوا عنا في أصوات المدينة، وأصداء دق الطُبول، وإن خلّت منا؛ لن تخلو منكم.
إلى: كافةِ الشعب العظيم.


اترك تعليقاً