الكاتب: أيمن هاشم
تتذكر راما الحلبية، بضفيرة شعر ذيل الحصان ووجهها المانجوي، تتذكر أنفَها الصغير، تملأ بفمك المياه وتعدو راكضًا المسافة بين الخلوة والوادي الرملي، تصب لها ماءَك في حفرة رمل، ثم تعملان على إزالة حافَات الرمل ليُصبحَ ما كنتما تصنعانه متماسكًا؛ تصنعان بيوتًا وقلاعًا.
ها أنت تجلس متململًا، منتظرًا أن يجيءَ دورك لتُردد بصوتك المذبوح جزءَ عمَّ. عندما وُلدت خنقك الحبلُ السري، حاولت القابلة لحظتها إخراج السوائل من صدرك، كنت تكُح، عندما صرخت حسبت القابلة أنك قد استفرغت لهاة حلقك ولوزتيك، أخرجت كلامك كله لذلك كان صوتك مجروحًا.
تخرج من الخلوة، تركُض بجلابيتك السَّمنية[1] إلى فريق الحلب، تهرول نحوَ الوادي حاملًا الزنبور الذي قبضته من الحقل، لتربطه في قصبة وتجلس مع راما تتابعان دورانه حول القصبة، تسترق النظر إلى عيني راما الخضراء، ثم عندما ترفع يدها لتُخبرك أن نملة قد عضتها، تُمسك يدها المحمرة نحو فمك، وتمص مكان البثرة الحديثة، تعرف شفتاك شيئًا أخر غيرَ الأكل، تعرف شفتاك هذا الشيء كانفجار لغمٍ، اللحظة التي تتذوق فيها طعمَ إنسان أخر.
في تلك الليلة، حلِمت بِكّ تُمسك حلمة ثديّها بأصابعك الصغيرة، تلقمها كحيوان جائع، ويصيبك الخدر اللذيذ، راما ذات الحلمات الوردية، تملك زهرتين في صدرها الناتئ، وأنت كالزنبور، ملحاحًا تُحلق حولها.
أمس عندما جلستَ بجوارها كان قلبُك ينبح ككلاب خور أبوعَنْجَة، قالت: إنَّها سمعته، قلت لها بصوتك القبيح: أحبك. قالت: “ود الكلب”. لم تسمعها وأخذت تبحث في صدرها عن هلاكك.
ركضتما في حقل البرسيم، وكانت أقدامها ملآى بالطين، عند جدول الماء أمسكت بقدمها ورحت تغسلها بالماء، كان الطين في أرجلها كالحناء، في ذلك العصر كانت حقول البرسيم خالية من المزارعين، قلتَ لها: أرح نلعب عروس وعروسة. ثم أخذت فرعين من شجرة النخيل، كان الناس يحضرون ويملأون المكان، نصبت شجر النخيل وأخذت تضع لها الحناء الطينية، صار ضجيج العصافير عند المغيب كأنه زغاريد، كنتما أكثر سخونةً من رياح السموم، وكان الطين ينضج، لم تشعر بالبلل إلا عندما هوتِ السماء، وصار أسفلها عاليها، عندما غاص كل شيء، وصارت شفة راما الوردية في شفتيك، طعمها مثل حلوى لكّوم[2].
رأيت عيني راما أكثر خضرة من الحقل، وسمعت أنفاسها، سمعت دقاتِ قلبها تخرجه لك، عضضت راما في رقبتها البيضاء، صنعت لها الوسم الأبدي، وقربت شفتيك من قميصها، أحسست ببذرة صدرها تنبت، فككت قميص الحلبية، وأخرجت لسانك كمن يتعلم نطق الأحرف، كطفل صغير شَره، مسحت بيدك حتى انتهت مقاومتها ودُكت حصونها، راما الحلبية بنت شفتيك الآن.
مرةً انفتح جدولك وخرج الماء منك، بللت قميصك، وفاحت رائحة الطين منك، رائحة لُقاح التمر. عرفت جِنِّيات الوادي أنك قد بلغت، لكنك لم تعرف ما هذا، راما أخبرتك أنها رياح حارة وأن حقلك نضج؛ اندهشت عندما لمست رقبتها وهي ساخنة، لم تكن الحصبة ولا حمَّى الوادي المتصدع، راما كانت مريضة بِك. البنت القمحية الناضجة أحبت مِنجلك، كل مرة تحصدها تنمو.
قابلتك راما في البيت المهجور، قالت لك: لنملأ هذا البيت أولادًا، وصارت تهاجمك كقطة شبقة، فككتّ ضفيرة شعرها المائلة إلى الاحمرار، كانت تجلس في قدميك، كانت زغائب شعرها المحمرة خفيفة كحمامة، راما تهدل فوقك كحمامة، تتنهد في أذنك، تنسيك جزءَ عمَّ، تنسيك كل شيء، كنت تظن أنكَ أرضها، لكن ليس للغجر أرض.
جاء الشتاء، موعد رحيل سكان الأودية، بردت أطرافك، واضطرب ذلك الشيء في جوفك، بلعت ريقك عندما وجدت الوادي خلوًا، راما رحلت، تتذكر وجهها المانجوي وخصلات شعرها المحمرة، شفتيها الورديتين، لم تكن أجمل فتاة، لكنها الوحيدة التي تركت صوتها في أذنك، صوتها الرقيق الذي لن تنساه، لذلك ستتفادى مساكِن الحلب[3] عندما تكون ذاهبًا إلى المدرسة، ستتفادى البنات الحلبيات بخوف، لأن كل حلبية سترى فيها راما، ستتذكر أن عليك أن تصلي بالناس برغم صوتك المبحوح القبيح، ولكنك لن تنسى كيف انتصب أيرك في صلاة المغرب عندما رأيت راما فوق عربة الكارو[4].
جاءت راما مخضبة بالحناء الخضراء، كانت أطراف يدها حمراء كثمر الزونيا، تتذكر كيف وضعت إصبعها في فمك ذات مرة، لم تعرف ما كل هذا، ولكنك فتحت فمك ومصصت إصبعها، بللته بلعابك، ولاعبته بلسانك، راما فعلت بك هذا، الغجرية بنت الشياطين لم تُفارق أحلامك، اكتشفت فيها قارة من اللذة، تتذكر كم ليلةً وسخت جلابيتك؟
راما أجمل من الأرض بعدَ مطر، أجمل من براعم الشجر الصغير، عينا راما ليست كأعين بنات القرية، عينيها مراوغة كأفعى، وآمنة كحقل برسيم. أنف راما صغير كأنف قط، شفتيها وردية كوردة صباح الخير، طاعمة كتمر (التمودة)، تترك راما خصلات شعرها عليك كما يترك المغيب المُحمر أشعته في الأفق، تتعمد اللعوب أن تغريك، تُغرب شمسُك في شمسها، تحب راما لحس رقبتك، أخبرتك أنها هرة.
لماذا عُدتّ إلى وادي الحلب، عادت راما ولكنها هذه المرة امرأة ناضجة، عادت راما كما يعود الربيع للوادي واخضرَّ كل شيء، رأيت عينها الخضراء العنبية، وهي تعمدت نكرانك. لماذا يا راما أشحتِ بوجهك؟
تسللت في ليلة القمر المضيء، إلى خيمة راما وكنت كالمُسرنّم تدوس أغصان الشجر، لا تأبه بوجود أهلها، تقودك رغبتك، تريد الحلبية، أن تتذوق بياضها، وردها، تشم سواد ليلها، عندما تقترب منها تفزع لرؤيتك، تضع يديك على فمها وتجلس أسفلها، كانت ترضع طفلتها، ترى عينيك الميتيتين وتعرف أنك جائع لها، ولكي لا توقظ الآخرين بصوتك القبيح، تضع في فمك ثديها، تهمُس لك: أريدك يا مُظلم.
راما قمرٌ طلّ ذات يوم على ليلة مظلمة، كنت وحدَك خائفًا نباحَ الكلاب والمرافعين لكنك تشجعت، عندما غادرت سريرك وأمسكت بطرف جلابيتك، تسلقت حائط بيتكم، كعنكبوت وقفزت مهرولًا نحو الوادي، كنت في كامل سخونتك، كانت ليلة صيفية، ذهبت إلى بيت راما، لخيمتهم وأخرجتها، ثم بلغت السادسة عشرة من عمرك، راما حلمك فاستيقظ.
[1] لون السمن
[2] حلوى ملبن
[3] الغجر
[4] العربة التي يقودها حمار
مصدر الصورة : محمد فاضل-مخرج سينمائي عن فيلمه الوثائقي- غجر السودان
اترك تعليقاً