رامبو – كيف لشابٍ عاصفٍ أن يُعيد تشكيل الشعر الحديث ثم يهجُرَهُ إلى الأبد ؟

·

·

, ,

تدين الحركة السريالية بدَينها الكبير للشاعر الفرنسي أرثور رامبو لرؤيته الفنية وأسلوبه المبتكر، كما نَجِد صدى إبداعه في أعمال شعراء كُثُر من (أندريه بريتون إلى أندريه فريانو). لَقَد كان رامبو بمثابة “الطفل الشقي” في سماء الشعر الفرنسي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأحد أعمدة المدرسة الرمزية، ولا تزال أعماله تُقرأ على نطاق واسع وتُترجم إلى عشرات اللغات. كما تأثر به شعراء كبار في الأدب الإنجليزي مثل صموئيل بيكيت وجون آشبري، الذين نقلوا قصائده إلى الإنجليزية..

وُلد جان-نيكولا-آرثر رامبو في شارلفيل شمال شرق فرنسا في 20 أكتوبر 1854، وهو الابن الثاني للقائد العسكري فريدريك رامبو وزوجته ماري-كاثرين-فيتالي رامبو (ني كويف). غَيبَتْه الحياة الأسرية المُضطربة عن والده المُتغيب غالباً، بينما اتسمت علاقته بأمه المُتسلطة بالصراع، وهو ما انعكس في قصائده المبكرة مثل “شُعراء السابعة” (1871). كانت فيتالي امرأة متدينة تُمثل بالنسبة له قيود الإيمان التقليدي وقيم العمل الجاد والوطنية المُتعالية، فَشَبَّ رامبو مُتمرداً على هذه المُثل، مُفضلاً حياة التحرر والفوضى الخلاقة.

بين عامي 1870 و1871، هرب رامبو من المنزل ثلاث مرات. أدى اندلاع الحرب الفرنسية-البروسية إلى إغلاق مدرسته، فانطلق إلى باريس حيث وُقِفَ لسفره دون تذكرة. قضى أشهراً يتجول في فرنسا وبلجيكا قبل أن تعيده الشرطة إلى منزله. وفي فبراير 1871، انضم إلى ثوار كومونة باريس، لكنه عاد قبل أن تُسحق الثورة بعنف. خلال هذه الفترة، صقل رامبو نظرية “الرؤيا” (Voyance) التي عبَّر عنها في رسائله الشهيرة إلى جورج إيزامبار وبول ديميني في مايو 1871،

الشاعر يجب أن يصبح “وسيطاً” يكشف عوالمَ خفيةً عبر تحطيم حواسه المألوفة. وبعد أن أرسل نماذج من أشعاره إلى بول فيرلين، تلقى دعوةً أخَّاذة:

“تعالَ أيها الروح العظيمة، ندعوك بلهفة.”

فانتقل إلى باريس في سبتمبر 1871، لتبدأ علاقة عاصفة مع فيرلين تُهدد زواجه وتُلهب المشهد الأدبي.

تُعتبر مجموعته الشعرية الأولى Poésies (1895)، التي كتبها بين 1869 و1872، عملاً تقليدياً في شكله، لكنها تخفي في ثناياها بذور ثورة لغوية. ففي قصائد مثل “الشر” و”نائم الوادي”، يسخر رامبو من عبثية الحرب، بينما يهجو النفاق في “عقاب تارتوف”. أما “في الخمارة الخضراء” و”بوهيميي”، فيمجد حياة التحرر بعيداً عن قيود البرجوازية. ولا يتردد في استخدام مفردات “غير شعرية” كـ”مراحيض” في نصه “شعراء السابعة”، مؤكداً أن اللغة الشعرية يجب أن تشمل كل ما هو مُهمَل وقذر.

بعد فترة من التيه مع فيرلين بين لندن وبروكسل، والتي انتهت بجرح رامبو برصاصة من حبيبهِ السابق وسجن فيرلين، كتب رامبو عمله الجريء موسم في الجحيم (1873). يُمثل هذا النص سيرة ذاتية سوداوية تبحث عن الخلاص الروحي عبر كسر قيود المسيحية وقيم المجتمع. أما إشراقات (1886)، التي كتبها لاحقاً، فهي ذروة تجربته في النثر الشعري، حيث ينسج عوماً سرياليةً عبر لغةٍ مُتفجِّرةٍ بالصور الغريبة والرموز المُبهمة “:

“أمسكتُ الجمالَ وأجلستهُ على فخذيَّ، فوجدتهُ مريراً. فلعنتهُ، ورميتهُ بعيداً.”

الصمت الأخير: من الشعر إلى الصحراء

في مفارقةٍ غريبة، تخلَّى رامبو عن الشعر في الحادية والعشرين، ليتحول إلى تاجرٍ ومستكشفٍ في إفريقيا والشرق. رغم صمته الأدبي، نشر فيرلين قصائده بعد سنوات، لتصبح نصوصه إرثاً خالداً يُلهم الأجيال. توفي رامبو عام 1891 بعد صراع مع السرطان، تاركاً وراءه لغزاً: كيف لشابٍ عاصفٍ أن يُعيد تشكيل الشعر الحديث ثم يهجره إلى الأبد؟


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *