للكاتب: إبراهيم جعفر مكرم
رأيتُ الجد منديك جالساً على الصخرة، وبين يديه كُرة ما يعمل عليها بشفرة سكين. اقتربتُ منه بحذر وحييته، فأومأ برأسه دون أن يحول تركيزه عن جز الكرة، وبحركة تلقائية أفسح لي مكاناً بقربه.
كان الجو صيفياً بلا حركة هواء، جلسنا مباشرة تحت الشمس، على الصخرة المدببة وغير المريحة، تلسع بحرارتها ألْيتي. لكنني احتملتها وظللت ثابتاً، فالجد منديك يحترمك فقط إذ أريته بأسك.
عندما مرَّ وقت طويل دون أن يتكلم أحدنا تمتمتُ: (أنا أطلب الصفح والمباركة يا جدي).
– قال: (أعرف)، ثم نظر إليّٙ بعينيه الحمراوين اللتين لا تطرفان، سألني: (يا ولد، أتحب اللحم؟ لقد جئتُ من الصيد للتو)
– امتعضتُ: (لم أعد ولداً).
كان الجد منديك عارياً تماماً بلا خرقة قماش تستره، تساءلتُ كيف له أن يحتمل بعراه ذاك حرارة الشمس.. لكني حين دققت في عضلات صدره الموشوم بالتمائم وكتفيه الضخمين العريضين حتى أدركت أنه غير قابل للهزيمة. أمال منديك جسده للأمام واقتطع بسكينه لحمة نيئة من الكرة ومررها إليّ.
شكرته وبدأت أمضغها بصعوبة فسال الدم على شفتي، وبالكاد استسغت طعمها الذفر. استفهمته: (قط بري؟!)
كاد منديك أن يضحك، همس لي: (أأبدو لك قوياً بما يكفي لمطاردة القطط؟!). ثم حمل الرأس المسلوخ ووجهها نحوي، نظرتُ إلى عينينه الميتتين وحفرتي الأنف والأسنان. وخمنت بأنه ربما رأس قرد ضخم.
قطع الجد قطعة لحم أخرى واقتسمها معي، هززت له رأسي ممتناً. كانت حرارة الصخرة التي نجلس عليها قد انخفضت قليلاً مما أزال عني التوتر. ومع الوقت شعرت بأن مسافة القلق التي تفصلنا انهارت تماماً ولم يعد هناك ما يخيفني. سألته: (جدي، أنني سأتزوج ابنتك، وأنا أنتظر منك رداً!)
لم يأبه الجد منديك، فقط واصل سلخ اللحم عن رأس القرد ومضغه ببطء. لقد كنتُ مجرد طفل حينما عثر عليَّ منديك خلال سنوات الحرب، وهبني اسم عائلته وتبناني كابنه الذي لم تنجبه نساءه الأربع. وها أنا الآن أقف أمامه كرجل.
قلتُ: (باركنا يا جدي، إنني أحبها). انفجر الجد منديك ضاحكاً وربت على كتفي، فسقطت رأس القرد من يده وتدحرجت على الرمل أمامنا، فبدت وكأنها الأخرى تضحك. قال آمراً: (يا ولد، أحضر لي كأس ماء).
أجبته بصوتٍ حاد: (لست ولداً)، ثم ذهبتُ إلى كوخة لأجلب له شيئاً يشربه، وجدتُ زوجة جدي الصغرى تبكي ومن حولها احتشدت النسوة، وحين
رأتني شتمتني بابن الزنا. لم أكترث، ملأتُ كوب جدي من قدر الذرة المنقوع، وعدت مسرعاً.
كان منديك قد أعاد حمل الرأس بين يديه مجدداً. لكن هذه المرة بشكل حميمي، كان يربت عليها ويزيح التراب ويصلي، ومازال فمه مشغولاً بمضغ قطع اللحم.
– قدمتُ له الكوب: (تفضل، بلل حلقك)
– قال بعد أن شرب: (ليس ماءً، لكنه خمر جيد ويذهب العطش يا ولد)
– صررتُ أسناني: (لستُ ولداً)
– (بالتأكيد لستَ ولداً، كل المانديك الذين يهربون يصبحون رجالاً)
– (لقد هربتُ بها لأتزوجها، إننا نعشق بعضنا، إننا أبداً لم نقصد…)
– قاطعني بيده: (أعرف، أعرف). ثم أدار الرأس المسلوخ تجاهي، كان مألوفاً بصورة ما، ولؤلؤتا عيناه تلمعان.
– قلتُ: (أطلب الإذن منك لأن أتزوجها)
– (ولكنكما تزوجتما بالفعل يا ولد)
– (فقط لأنك رفضتَ أن تباركنا، وها أنا عدتُ لأعرف ردك الأخير)
– (أنت نشأت كرجل مانديك ولا عتب عليك، لكنها هي من قصمت قلبي!)
– (إنها أيضاً مانديك ومن بطنك، وتحبك بقدر ما تحبني)
– (تباً أعرف أعرف، لكن ما جدوى ذلك الآن… اغرب عن وجهي)، ثم ألقى بالرأس إليّ وبدأ يغني أغنية قديمة للأرواح.
قلت: (لن ترانا بعد اليوم). ثم قفزتُ ناهضاً على الفور، حملتُ الرأس الثقيلة ورحلتُ. كانت يداي قد اصطبغتا بالدم ورائحة اللحم النيء، ومن بعيد راح صوت غناء جدي منديك يخبو شيئاً فشيئاً، حيث عملت الخمر على رأسه وأذهبتها. رميت رأس القرد اللعينة من يدي وركلتها، لكني أحسست بأن الرأس ابتسمت لي، ابتسامة أعرفها، شعرت بالغثيان والألم والدوار، إنها بالتأكيد ليست رأس قرد، إنها رأس ابنة منديك.!
اترك تعليقاً