خيولُ أبديرا

·

·

, ,

قصّة للكاتب: ليوبولدو لوجونيس

ترجمة: علي أرباب

من كتاب “قُوىً غريبة”

(١٩٠٦)


كانت أبديرا، المدينة التراقية الواقعة على بحر إيجه – والمعروفة اليوم باسم بالاسترا، والتي لا ينبغي الخلط بينها وبين نظيرتها الباطيكية – مشهورةً بخيولها.

لم يكن أمراً هيّناً أن يمتاز المرء في تراقيا بفضل خيوله؛ ولم تمتز أبديرا وحسب، بل تفرّدت تماماً بخيولها.

اعتزّ جميع أهل المدينة بتربية هذا الحيوان النبيل، وقد ترعرع هذا الشغف وغذي على مدى أعوامٍ طوال بدأبٍ حتى غدا جزءاً لا يتجزأ من تقاليد المدينة، وحتى انتهى إلى نتائج معجزة.

حازت خيول أبديرا شهرةً استثنائية، وكان أهل سائر مدن تراقيا – من الكيكونيين إلى البيسالتيين – يقرّون بسبقِ هؤلاء البيستونيين، أهالي أبديرا.

ويجدر أن نضيف أن هذه الحرفة، التي جمعت بين الربح والمتعة، استحوذت على اهتمام الجميع، بدءاً من الملك وصولًا لأدنى أهالي المدينة شأناً

أسهمت هذه الظروف في جعل العلاقة بين الخيول وأصحابها أكثر حميميةً بكثير مما كان، أو سيكون، معتاداً لدى سائر الأمم. فكانت الإسطبلات تُعدّ امتداداً للبيوت، وقد بلغ هذا الشغف، حين تُرك لسجيّة المبالغة، حدّ التطرّف الذي جعل أهل أبديرا يسمحون لخيولهم بأن تشاركهم موائد الطعام.

برغم كونها في عداد البهائم، إلا أن جياد أبديرا كانت فاتنةً بحق. كان بعضُها ينام تحت أغطية من البَسّوس، في حين زُينت جدر بعض المعالف بجدارياتٍ بسيطة، إذ آمن عددٌ غير قليلٍ من بياطرة أبديرا بتمتّع جنس الخيول بذائقةٍ فنية. أما مقبرة الخيول، فقد تباهت، بين زخارف مقابر البرجوازيين الباذخة، باثنتين أو ثلاثٍ من التحف.

كان أجمل معابد المدينة مكرّساً لـ”آريون”، الحصان الذي استخرجه نبتون من باطن الأرض بضربة من رمحه الثلاثي.

وأعتقدُ أن عادة تزيين مقدّمات السفن برؤوس الخيل جاءت من هذا الأصل نفسه _ من المؤكد على الأقل أن النقوش البارزة لصور الخيل كانت أكثر الزخارف شيوعاً في عمارة أبديرا.

فوق ذلك، كان الملك نفسه أكثر من أظهر ولعَه بالجياد، حتى إنه كان يتغاضى عن جرائمَ قارفتها خيوله. وقاد هذا بالطبع لأن تكتسب الخيول شراسةً مفرطة، وقد ورد اسما “بودارجوس” و”لامبون” في حكاياتٍ مقبضة. وينبغي أن أنبّه لأن خيول أبديرا كانت تُسمّى بأسماء، مثلها مثل البشر.

في باديء الأمر كانت هذه الحيوانات طيّعةً إلى حدٍّ انتفت معه ضرورة إلجامها، ولم تكن تُبقى عليها اللُّجم إلا لأجل الزينة، وهي زينةٌ كانت تروق للخيول نفسها في واقع الأمر.

كانت الكلماتُ وحدها هي الوسيلة المعتادة لمخاطبتها، ثم لوحظ أن الحرية كانت تُنمّي من خصالها الحسنة، فصار يُسمح لها بالتسكع على هواها في كل الأوقات، بلا سروجٍ ولا أعنّة، مسوّمةً كما يحلو لها – لأجل المتعة أو الرعي – في البراري الرحيبة على أطراف نهر الكوسينيتيّين.

وعندما تدعو الحاجة كانت الخيول تُنادى بنفخ الأبواق، إن كان لأجل عملٍ أو لأجل إطعامها، وكانت تستجيب في الحال.

أما براعتها في ألعاب السيرك، بل وحتى في ألعاب الصالونات، فقد بلغت حدّاً يكاد لا يُصدَّق، وقد أبدت ذات الحدّ المعجز من البسالة في المعارك، ومن الوقار المهيب في المراسم الجليلة.

وهكذا، بفضل مضمار سباق خيلها، وفِرَقها البهلوانية، وفرسانها المدرّعين بالبرونز، وحتى مواكب جنائزها، حازت أبديرا شهرةً طبقّت الآفاق، حتى إن الناس كانوا يفدون لزيارتها من أماكن نائية. وقد انقسم الفضل في ذلك بين المروّضين والخيول على حدٍّ سواء.

نشأ عن هذا التعليم الدؤوب، عن هذا التهذيب القسريّ للخصال، أو بعبارةٍ أخرى، عن هذه الأنسنة لجنس الخيل، ظاهرةٌ احتفى بها البيستونيون باعتبارها مجداً قومياً جديداً: لقد أخذ ذكاء خيولهم يتفتّق شيئاً فشيئاً، حتى بلغ في أحايين حالاتٍ شاذة غذّت أحاديثهم اليومية وألهبت من مخيلتهم.

فقد ألحت مُهرةٌ على تعليق مرايا في معلفها، فانتزعت بأسنانها المرايا من مخدع صاحبها، ثم أخذت تركل وتحطم ثلاث مرايا أخرى في أرجاء المنزل حين لم تُلبَّ رغبتها.

وحين أُجيبت إلى طلبها، أبدت ايحاءاتٍ واضحة من الدلال والتغنّج.

و”باليُوس”، أجملُ جياد المدينة، وهو حصانٌ أبيض، وسيمٌ ورقيق الحاشية، سبق أن خدم في حملتين عسكريتين. صار مشغوفاً بسماع أشعار البطولة من العَروض السداسي. ومات حبّاً بسيدةٍ نبيلة؛ زوجة الجنرال صاحب الفرس المدلّه. لم يتستّر هذا بدوره على الأمر، بل على العكس، رأى فيه مدعاةً للزهو، أمراً ليس بالمستغرب في عاصمة الفروسية.

وبالمثل، راجت أنباء عن قتل الخيول لمهورها، ولما أخذت هذه الحالات في الازدياد بمعدلٍ مقلق، اضطُرّ أهل المدينة للاستعانة ببغالٍ مسنّة لتبنّي المهور الوليدة، لتحول بحضورها بينها وبين آبائها.

تنامى لدى الخيول أيضاً ولعٌ بالتهام الأسماك ونبات القنّب، وأخذت تجتاح مزارع القنب وتنتهبها. وفي بعض ثوراتها المعزولة، ثبت أن السوط لم يعد كافياً لقمعها، ولم يفلح معها إلا الحديد المُحمّى. ثم غدا هذا الإجراء الأخير ديدناً، إذ أن نزعة التمرّد لم تنطفيء بالرغم من كل شيء.

إلا إن افتتان البيستونيين بخيولهم كان قد فاق أي وقتٍ مضى، فلم يستوقفهم التفكير في أيّ من ذلك. واستمرت وقائع أخرى، أشدّ خطراً من كل ما كان.

تحالفت فرقتان أو ثلاث من الخيول على سائق عربةٍ كان يجلد مُهرته الحرون. ويوماً بعد يوم بدأت كل الخيول تقاوم السُرُج والنِّير، إلى أن صارت الحمير مفضلةً عليها في أداء العديد من المهام. كان من بين الخيول من لا يقبل أنواعاً معينة من اللجام والسروج؛ ولكنها إذ كانت مملوكةً لأثرياء المدينة، فقد عُدّ تمرّدها من قبيل “النزوة”.

وجاء يومٌ لم تستجب فيه الخيول لنفخ الأبواق، واضطُرّ الأهالي لإخضاعها بالقوة؛ لكن التمرّد لم يتكرر في اليوم التالي.

وقع التمرد في يومٍ غطّى فيه مدّ البحر شاطئه بالأسماك النافقة كما هو ديدنه من حينٍ لحين. اتخمت الخيول بطونها بالأسماك؛ ثم شوهدت عائدةً إلى الحقول خارج المدينة في أناةٍ كئيبة وكأنها نذيرُ شؤم.

اندلع الصراع الذي لا يُصدق عند منتصف الليل.

فجأة، هزّ هديرٌ مدوٍّ لا ينقطع كل أرجاء المدينة. كانت جموع الخيول تهاجم المدينة؛ إلا أن أحداً لم يدرك هذا في باديء الأمر، إذ خفيَ تحت ظلمة الليل ووطأة المباغتة.

ولما كانت المراعي تقع داخل أسوار المدينة، لم يعترض الهجومَ عائق؛ ثم أن معرفة الخيول الوثيقة بكل بيوت المدينة فاقمت من الكارثة.

الليلةُ التي لا تُنسى … لم تتبدّ أهوالها إلا عند انكشافها تحت ضياء الفجر، وحينها لم يزدها النور إلا فظاعة.

كانت الأبواب المطروحة أرضاً شاهدةً على العشرات من موجات الاجتياح الضارية، الواحدة تلو الأخرى، بلا لحظة توقفٍ تقريباً. أعدادٌ ليست بالقليلة من بين الأهالي سقطت سحقاً تحت سنابك الخيول ونهشاً بأسنانها، وسط فوضى عارمة أسهمت فيها أسلحة البشر في سفك الدماء أكثر من حقنها.

مُزلزلةً تحت وطأة حشود الخيل، اسودّت سماء المدينة بغبار سنابكها؛ وضاعف من الهول صخبٌ غريب: صرخاتُ غضبٍ أو ألم، وصهيلٌ تمايزت نبراته كتمايز الكلمات، ممتزجاً بنهيقٍ مذعورٍ أو بصوتٍ بلا معالم، وضجيجُ تحطم الأبواب وانهيار الجدران، ماجت كلها في جلبةٍ وحشيةٍ أضفت رعباً مسموعاً على فظاعة الكارثة المرئية.

أحدث وقع حوافر الحشد الثائر المتمرّدة شبه زلزالٍ لا ينقطع، متصاعداً بين حينٍ وآخر كإعصارٍ متفجّر قوامه أفواجٌ هائمةٌ بغير غايةٍ أو اتجاه؛ إذ بعد أن انتهبت الخيل حقول القنّب، وحتى بعض مخازنه التي طالما اشتهتها تلك الجياد المترفة المدللة بأهواء المآدب_ أُترعت جماعاتٌ منها بالخمر، واستفزها السُكرُ لمزيدٍ من التدمير.

استحال الفرار حتى عبر البحر، لعلم الخيول باستخدام البشر للسفن، فأغلقت جميع المنافذ المفضية إلى الميناء.

لم يبقَ صامداً سوى الحصن، حيث بدأت مقاومةٌ بالتشكل وراء جدرانه. ففي تلك الأثناء، كان كل حصانٍ يمرّ أمام الحصن يُمطر بوابلٍ من السهام؛ وإذا ما سقط على مقربة، كان يُجرّ لداخل الحصن للتزوّد بلحمه مؤونةً.

ثم سرت بين الملتجئين بالحصن أغرب الشائعات. قال البعض إن الهجوم الأول لم يكن إلا لأجل النهب، وأن الجياد، ما إن حطّمت الأبواب، حتى اندفعت إلى الغرف قاصدةً الأقمشة الفاخرة، محاولةً أن تتزيّا بها، وبالحُلي وبسائر ما كان يلمع في عيونها. وكل محاولةٍ لردعها عن غايتها كانت تضرم من جنونها أكثر.

وتحدث آخرون عن رغائب وحشية، وعن نساءٍ اقتُحمت مخادعهن وسُحقن على أسرّتهن تحت وطأة هياجٍ بهيميّ.

بل إن عذراء نبيلة روت منتحبةً مأساتها المضاعفَة في محنتين: أولاهما، في حلكة ليلٍ لم يبدده مصباحها الخافت، حين أفزعتها من نومها شفاهٌ تنشب على شفتيها، وإذ بها أمام وجه مهرٍ أسود، فاغراً شدقيه منتشياً، كاشفاً صف أسنانه المروعة. فصرخت ملتاعةً لمرأى بريقٍ في عيني الوحش توهج بشهوةٍ بشرية ماكرة.

وكانت ثاني مآسيها سيل الدماء الذي أغرقها فيه حين خرّ فوقها ذبيحاً، بعد أن اخترقه سيف خادمها …

كما رُويت مجازر عديدة قيل إن المِهار اقترفتها في جذل، إذ راحت تدهس وتعضّ ضحاياها بحنق أنثويّ بادٍ.

أما الحمير، فقد أُبيدت بأسرها، وثارت البغال بالمثل، لكن بارتباكٍ غريزيّ، منخرطةً في تدميرٍ محض بلا غاية، وخصّت الكلاب بأشد العداء.

ظلّ هدير الأفواج المتسابقة يُرعد أبديرا، وطبّق صدى تهاوي المباني أجواز المدينة. ولمّا بدا أن الخراب الأعمى سيطال كل شيء، صارت الحاجة ملحّةً لتدبير خطةٍ للفرار، رغم أن كثرة أعداد الخيول المهاجمة وشراستها جعلت من الفرار ذاته خطراً داهماً.

بدأ الرجال في التسلّح. ولكن قبل مضي برهةٍ قصيرة بدا أن الخيل، وقد ملّت العبث، قررت الهجوم على الحصن ذاته.

سبق الهجوم صمتٌ مفاجئ. ومن فوق الأسوار، أبصر الناس جحافل الجيش الرهيب وهي تحتشد – ليس بغير شيءٍ من العسر – في مضمار السباق. استغرق هذا ساعاتٍ طويلة، إذ كلما بدا أن صفوفها انتظمت، تدافع بعضها في فوضى مفاجئة أو تعالى صهيلها الحادّ بلا سبب واضح، فتنهار جميع صفوفها من جديد.

مالت الشمس نحو المغيب حينما وقع أول هجوم. لكنه كان، إن جاز الوصف، أشبه بعرضٍ استهلالي، إذ اكتفت الخيول بالخبب حول الحصن، دون هجوم مباشر، لكن برغم ذلك ظلت تتساقط تحت وابل سهام المدافعين.

ومن أقصى تخوم المدينة، انطلقت من جديد، وكان صدامها بالجدران إذ بلغتها مهولاً. ارتجّ الحصن بأسره تحت عصف السنابك، والحقّ يقال، فقد تزعزعت عماد الحصن وجُدُره.

ثم ارتدت الجموع متقهقرة، لتعاود الهجوم في الحال.

كانت الخيول والبغال الموسومة تتساقط بالعشرات، لكن صفوفها كانت ما تلبث أن تلتئم ثانيةً باهتياجٍ دمويٍّ، ولم يبدُ على أعدادها أي تناقص.

وما زاد الأمر سوءاً أن تمكّنَ البعضُ منها بنحوٍ ما من ارتداء الدروع، فأخذت السهام ترتد عن دروعها الفولاذية. ولبس بعضها خرقاً من أقمشةٍ ملونة، وتقلّد بعضها القلائد، ومن بين كل الخيول فقد سلكت هذه مسلك رعونةِ الأطفال في مزيج شرودٍ وحنق، متقافزةً كما يهييء لها نزقها. ومن فوق الأسوار عرف الناس هذه الأحصنة بالتحديد: دينوس، وآيتون، وأميتيو، وزانتوس!

وهي بدورها حيّت جماعات المحتمين في الحصن بصهيلٍ متهلل وذيولٍ ملوّحة، ثم انقضّت معاً في هجومٍ ضارٍ.

أحدُها كان فيما يبدو زعيماً عليها. انتصب على قائمتيه الخلفيتين، وخطا بهذه الشاكلة خطواتٍ قصيرة، وهو يخمش الهواء بحوافره كأنما يعرضُ فالساً عسكرياً. مقوّساً عنقه بأناقة حيّةٍ راقصة، إلى أن اخترق سهمٌ منتصف صدره.

كانت الكفة تميل لصالح المهاجمين. وكانت جدران الحصن في سبيلها لأن تتهاوى. وفجأةً، دوى إنذارٌ جمدت له كل الخيل في أماكنها. وراحت تميل على بعضها، كتفاً بكتف، ومتناً بمتن، ومدّت أعناقها نحو الحديقة الممتدة على ضفاف نهر الكوسينيتيين.

التفت المدافعون في الحصن لتلك الجهة، فشهدوا مشهداً جللاً. فوق الأشجار السوداء، قبالة سماء الظهيرة، ارتفع رأسٌ مهول لأسدٍ عملاقٍ يشخص ببصره نحو المدينة. كان وحشاً من عصور ما قبل الطوفان، من تلك الكائنات التي لا تظهر إلا من أبدٍ إلى أبد إذ تُباغت جبال الرودوب وتعيث فيها الفساد.

إلا أنه لم يسبق مرأى شيءٍ بهذا الفظاعة؛ رأس الأسد الجبار فوق أعلى الأشجار، وقممها المتوهجة بشفق الغروب تداعب خصلات لبدته المتشابكة.

حتى من على البعد كان جلياً أنه يغضي أجفانه من ضياء الشمس الغاربة الملتمع على أنيابه الهائلة؛ وحتى رائحته البريّة نفذت لمن في الحصن مع أنسام الريح.

واقفاً بلا حراك وسط الخضرة المتمايلة، تصقل الشمس لبدته الضخمة حتى لتبدو من الذهب، حاجباً الأفق، كواحدٍ من تلك الجلاميد التي نحت منها البلاسجيون – من عاصروا هذا الوحش – آلهتهم الهمجية.

وفجأةً، شرع في السير، وئيداً كالمحيط. تناهى إلى الآذان صوت الأغصان المتهشمة تحت عُتُو صدره، وكذاك صوت أنفاسه اللاهبة التي كانت ستطيح بالمدينة رأساً لعقب إن عنّ له الزئير.

وبرغم بأس الخيول المتمرّدة وأعدادها الغفيرة، فإنها لم تحاول مناوشة الوحش أو الدنو منه. وكأن قوةً متحدة تملكتّها، انطلقت بأسرها نحو الشاطئ، تجاه مقدونيا، مثيرةً وراءها زوبعةَ رمالٍ وزهوم، وارتمى كثيرٌ منها في البحر مخترقاً الموج.

طغى على الحصن هاجسٌ من هلع.

ما الذي يمكن فعله إزاء الوحش؟ أيُّ صِفاحٍ برونزية قد تصمد أمام أنيابه؟ أيُّ جدارٍ يردّ مخالبه …؟

بدا لهم الخطر القديم خيراً من خطر الوحش، فذاك على الأقل كان صراعاً ضد بهائم متمدّنة. وتبددت حتى الإرادة لشدّ أوتار الأقواس أمام الأسد حين برز من بين الأشجار إلى العراء.

لكن ما انبعث من بين أنيابه لم يكن زئيراً، بل صيحة حربٍ بشرية؛ هتافُ المعركة القديم؛ (آلالاي!).

فما كان من أهل الحصن إلا أن أجابوه، بنشوةٍ ظافرة، بهتاف النصر: (هيوهي! … هيوتوهوه!)

يا للأعجوبة المجيدة!

أسفل الرأس السنورّي الرهيب، سطع ضياءٌ سامٍ من محيّاً إلهيّ؛ الصدرٌ المرمريّ، الساعدان كشجرتي بلوط، الفخذان الجليلان، كل ذلك مؤتلفٌ في تناسقٍ مهيب مع إهابه المذهّب بلون العسل.

ونداء … نداءٌ واحد للحرية والامتنان والفخار، ملأ سماء الظهيرة:

“هرقل! لقد جاء هرقل!”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *