المقال الثالث من سلسلة إعادة إنتاج السرديات
الكاتبة: يسرا حسن النيل
في هذا النص، أُكمل تأملاتي حول النسوية كحيزٍ معقّد: حيز نلجأ إليه بحثًا عن الأمان، فنكتشف أحيانًا أنه يحمل بذور ما هربنا منه.
أكتب لا من موقع الرفض، بل من رغبة في كشف الطبقات، ومساءلة “النصوص غير المُعلنة” التي تُعيد رسم حدود الانتماء داخل الحركات التقدمية.
هذا النص ليس ضد النسوية.
بل من أجل نسوية أوسع… تحتمل تناقضنا، غضبنا، ولهجتنا الأصلية.!
في إحدى الجلسات، كنا نناقش “كيف نصنع عالمًا أكثر عدلًا للنساء؟”، لكنني شعرت أنني مطالَبة أولًا بأن أُجيد صياغة نفسي بطريقة تُرضي الذوق العام النسوي:
لا غاضبة أكثر من اللازم… ولا مسالمة حد التفاهة. متعلمة… لكن ليس من المدرسة “الخطأ”.
دارسة نسوية… لكن دون لهجة محلية، أو ذاكرة ثقيلة لا تُترجم بسلاسة.
في تلك اللحظة، أدركت: السلطة ليست فقط في منابر السياسة أو قاعات الأمم المتحدة. السلطة قد تجلس بجانبكِ، وتبتسم.قد تشارككِ الندوة، وتُربّت على كتفكِ وهي تعلّمك “كيف تكونين نسوية صالحة”.
في أحد الاجتماعات، قيل لي بنبرة شبه مازحة:
“إذا لم تتحدثي بمصطلحات أجنبية، فأنتِ غريبة عن النقاش.”
ابتسمتُ على مضض، لكن الجملة ظلّت تطنّ في رأسي أيامًا طويلة…لأنها لم تكن مجرد مزحة — كانت مرآة.
في كثير من الدوائر التي يُفترض أن تُنصت لصوت النساء من الجنوب، لا يُكفي أن تكون لديك تجربة، أو بصيرة، أو وعي…
بل عليكِ أن تُعبّري عن ذلك بـ”لغة مناسبة”: لغة مُثقفة، مُعولمة، مُحايدة، تشبه ما يُقال في المؤتمرات الدولية أو مراكز الأبحاث الكبرى.
وكأننا لا نستحق أن نكون “صاحبات فكر” إلا إذا أتقنّا مصطلحات مثل intersectionality، epistemic violence، أو decolonial praxis، حتى لو كانت جروحنا تتكلّم بلغة أبسط، أصدق، وأكثر نزفًا.
وهكذا، دون أن نُدرك، نبدأ في تعديل لهجتنا، وتخفيف عاطفتنا، وتهذيب غضبنا — ليس لأننا لا نملك صوتًا، بل لأن صوتنا لا يُطابق النموذج.
في هذا السياق، أود أن أُضيف:
اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي أداة للهوية والتمكين، وفي دول الجنوب العالمي، تُعدّ لغتنا الأم، العربية أو اللغات المحلية الأخرى، مخزونًا ثريًا من الخبرات والتجارب التي لا ينبغي أن تُستبدل أو تُهمش لصالح لغة أجنبية.
حين يُطلب منا أن نتحدث بلغة ليست لغتنا الأصلية لنُقبَل أو نُعترف بنا، نجد أنفسنا أمام تناقض عميق:
هل اللغة الأجنبية معيار للوعي، أم أداة لاستبعادنا؟
هل علينا أن نُخفف من هويتنا لنتناغم مع ما يُعتبر “عالميًا”؟
هذه الأسئلة ليست مجرد فُرص تعليمية، بل صراعات يومية من أجل احتفاظنا بصوتنا الحقيقي.
**
استنساخ النموذج الأوروبي داخل المساحات النسوية في الجنوب ليس دائمًا بفعل القمع المباشر، بل غالبًا عبر الرغبة في “القبول”. فنُقلّد ما يُعتبر مرجعيًا، عالميًا، متقدمًا ثم نُجبر أنفسنا على التماهي معه كي لا نُقصى.
لكن في هذا التماهي… نفقد شيئًا فادحًا: ذاكرتنا، لهجتنا، وصدق الكتابة كما نعيشها لا كما يُطلب منا أن نُتقنها.
أنا لا أرفض التعلم، ولا أستنكر الاستفادة من تجارب نسوية عالمية، لكنّي أسأل:
لماذا لا تُعدّ تجربتي مرجعية بذاتها؟
لماذا لا نُصدّق أن نساء مخيمات النزوح، أو الأسواق، أو الأحياء الشعبية يمتلكن رؤى للنجاة، للعدالة، وللحب…
ربما أكثر مما كُتب في ألف ورقة بحثية؟
*
في السنوات الأخيرة، قضيت وقتًا طويلًا أتنقّل بين دوائر نسوية. من منظمات، إلى مجموعات قراءة، إلى مشاريع جماعية، وحتى دوائر عاطفية. دوائر كان يُفترض بها أن تكون مساحة تنفّس، تحرّر، أمان… لكنها كانت في كثير من الأحيان مسرحًا متقن الإضاءة لإعادة إنتاج كل ما نهرب منه:
التحكّم، التصنيف، والامتثال.
أدركتُ أن هناك دائمًا “نصًا غير معلن” — نص يتعلّق بكيف يجب أن نبدو، نتحدث، نغضب، نختلف.
من تلبس الحجاب، تُمتحَن نسويتها.
ومن لا تلبسه، تُسأل إن كانت ترفض الدين.
من تتحدث بلغة شعبية، تُعد “عاطفية”.
ومن تكتب بلغة تحليلية، تُعد “متعالية”.
من تحمل جسدًا أسمر، تُوضع في خانة “الصوت الأصلي”،
ومن تبدو أكثر بياضًا، تُتهم بأنها “مُريحة للمركز”.
حتى النضال… صار له شروط دخول.
*
أحيانًا، شعرت أن النسوية التي نمارسها أقرب إلى أداء مسرحي:
مطلوب منك أن تكوني “واعية”، “مُتقنة المصطلحات”، “تعرفين الفرق بين الجنس والنوع”، ومع ذلك… تصمتين حين تتعرض صديقتكِ للتهميش، لأن من تهمّشها “صاحبة مشروع كبير”، أو “اسم معروف”، أو “رفيقة”.
فهل نحن نُجيد المحاسبة… فقط عندما لا تُهددنا؟
هل نسامح باسم “الأختية” حين يكون المعتدي من “أهلنا”؟
هل نمارس السيطرة، لكن بلغة “التمكين”؟
*
أنا لا أكتب هذا من موقع الضحية، ولا من برج العدل الأخلاقي. أنا أكتبه لأنني أيضًا مارستُ هذا الصمت، وأحيانًا… مارستُ التواطؤ.
وأدركت أن التحرر لا يعني فقط أن ننتقد السلطة من الخارج، بل أن نراها حين تسكن بيننا، في تفاصيلنا الصغيرة، في الكلمات المبطّنة، وفي اللحظات التي نشعر فيها أننا مضطرات لإعادة تشكيل أنفسنا، حتى نُقبَل.
ربما النسوية التي نحتاجها اليوم، ليست تلك التي تطلب منا أن نكون نساء “واعيات” بلغة واحدة، بل تلك التي تتيح لنا أن نأتي كما نحن: متناقضات، ضعيفات، غاضبات، غير محسوبات على أحد.
نسوية تفتح الباب… لا تختبر الداخلات. تُعيد تعريف الانتماء… لا تُشترط مسبقًا.
نسوية تعرف أن الاختلاف ليس تهديدًا، وأن الصمت عن الهيمنة، ولو جاءت بلسان “نساء”، هو استمرار لما نحاول إسقاطه.
اترك تعليقاً