حينما إرتدت السودانيات القمر كأقراط

القمر بوبا هو قُرط (حَلَق) سوداني متميز كبير الحجم على شكل هلال، قديما تعودت النساء إضافته إلى جدلة العروس، وبعضهن كن يرتدينها كأقراط، ويعرف أيضاً بإسم (الفِدَايا او الفِدَو) ، أما كلمة (بوبا) لوحدها فهي تعني توهج، وفي العامية السودانية : النار بوبت أى النار اشتعلت وتوهجت، والمره دي تبوبي أى تتوهج.

لنجد التفسير من اللغة النوبية فكلمة “بوبا” بفعل “بوبتْ”، كما في جملة “النار بوبتْ” أي اشتعلت وتوهجت، ليصبح المعنى الكامل “القمر المتوهج أو المضيء”.

تاريخياً، ترتبط حُلي الهلال بتاريخ السودان الضارب في القدم. فقد إشتهرت المنطقة بتاريخ عريق في صناعة الحُلي والمشغولات المعدنية يمتد لأكثر من 7,000 عام، وتبرز في هذا السياق الثقافة المروية القديمة التي ازدهرت على ضفاف النيل. وكان شكل الهلال من الزخارف التقليدية في تلك الحضارة. وبالإنتقال الى الطبقة الإسلامية الصوفية (الماضي الوسيط): مع دخول الإسلام، لم يختفِ رمز الهلال بل اكتسب طبقة معنى جديدة. تم تكييفه ضمن الثقافة الإسلامية وأصبح رمزاً مرتبطاً بالتقويم الهجري والأعياد الدينية. هذا التمازج بين الرمزية القديمة والجديدة هو سمة مميزة للثقافات السودانية.

كانت تقليعة (القمر بوبا) تقليعة سائدة في الزمن الماضي في المجتمع السوداني، خصوصا في المناطق الشمالية والنوبية بالتحديد، حيث كانت الحلي الكبيرة التي تلبس في الأذن تعرف بـ: (العكش)، حتى جاء القمر بوبا وهو أصغر من العكش وأكبر من الحلق ويكون على شكل هلال.

ورغم أن المؤرخين يرجعون الاستخدام الحديث لأقراط “القمر بوبا” إلى بداية ثلاثينيات القرن العشرين، فإن كثيرين يرجحون أن أصلها أقدم من ذلك. فهناك تكهنات بأن تصميمها قد يعود إلى فترة ما قبل الإسلام، ربما إلى العصر المروي أو حتى البيزنطي، حيث كان الهلال جزءًا من تيجان أو أغطية الرأس. وبمرور الزمن، ارتبطت هذه الأقراط بشكل خاص بزينة العروس في شمال السودان والمناطق النوبية، لكن يمكن القول وبحذر حتى الآن، الأدلة المباشرة على قرط مطابق لـ “القمر بوبا” الحديث نادرة، لكننا نجد شكل الهلال بكثرة في زخارف أخرى: كقلائد، أو أجزاء من تيجان الملوك والملكات (الكنداكات)، أو رسوم على الفخار.

فقد استُخدم الهلال كرمز للأنوثة في حضارات عديدة عبر التاريخ، وغالبًا ما كان مرتبطًا بتمجيد آلهة القمر. وفي طقوس الزواج السودانية التقليدية، مثل “الجرتق”، يُستخدم الهلال كأحد الأدوات التي ترمز إلى الخصوبة والنماء وبذلك نرى الوظيفة الاجتماعية والطقسية (The Social & Ritual Function فالدور الذي تلعبه هذه القطعة في النسيج الاجتماعي كعلامة بصرية (Visual Marker) تحدد الحالة الاجتماعية (عزباء، متزوجة)، والانتماء العرقي (نوبية، شمالية)، والطبقة الاقتصادية (حجم الذهب ونقاؤه). في طقس مثل “الجرتق”، تتحول من مجرد “زينة” إلى “أداة طقسية” تُستخدم لاستجلاب الخصوبة والبركة، وحماية العروس من الأرواح الشريرة.

درع واقٍ (Apotropaic Object): يُعتقد أن لمعان الذهب وشكل الهلال الحاد لهما قدرة على “رد العين” ودرء الأرواح الشريرة أو الغيورة التي قد تضر بالعروس في أكثر لحظات حياتها حساسية وتحولاً. هو ليس للزينة فقط، بل للحماية. لونه الذهبي يرمز للشمس والنور، وشكله الهلالي يرمز للقمر، ليجمع بين القوتين الكونية لحماية العروس.

ونقرأ في الانتقالات الحديثة حالة ما يشبه اعادة تبني السردية القديمة فقد تحولت قطعة حُلي تقليدية، مرتبطة بالجدات والطقوس القديمة، إلى رمز سياسي معاصر خلال ثورة 2019 ففي لقطة الفتاة التي ترتدي الثوب الأبيض وتهتف، تغير المعنى الذي كانت ترتديه جداتهم. لقد إعادة تغذية و “شحن” هذا الرمز بمعانٍ جديدة: الفخر الوطني، مقاومة محو الهوية، تمكين المرأة (Feminist Empowerment)، والربط بين الماضي الثوري والمستقبل المنشود. أصبح القرط “بيانًا سياسيًا” (Political Statement) يُرتدى بفخر في الشوارع، وليس فقط في غرف الأعراس المغلقة، فتم توزيع الأدوار هذه المرة بطريقة سحرية، والمرأة التي ترتديه لم تعد العروس الخجولة المحمية، بل هي “الكنداكة” التي تشارك في المظاهرات.

قالت المصورة لنا هجو والتي التقطت الصورة الاشهر للثورة السودانية على مستوى العالم قالت (لفت نظري بريق القرط مع شمس الاصيل فاتيت مسرعة لكي لا تفوتني اللقطة)

قديما في المناطق الشمالية والنوبية بالتحديد، حيث كانت الحلي الكبيرة التي تلبس في الأذن تعرف بـ (العكش)، حتى جاء بوبا وهو أصغر من العكش وأكبر من الحلق ويكون على شكل هلال وهو شهير بخفه وزنه ، هذه القصيدة تعتبر من التراث في منطقة الشايقية… ويقال إن مؤلفها لم يكن واحدا وإنما أضاف عدد من شعراء المنطقة كلماتهم الجميلة إليها… و في أقوال أخرى إن مؤلفها هو الشاعر الراحل المقيم إسماعيل حسن و سجلت في الإذاعة السودانية في نهاية الخمسينيات،  ففي كلمات الأغنية كان الشاعر من رقة محبوبته يقول لها إن بوبا ثقيل الوزن على أذنك. وبذلك إنتقلت الحكاية من السياق الطقسي الخاص (غرفة العروس) إلى الفضاء العام (الراديو والمجتمع). لقد تحول القرط من رمز نخبوي أو محلي إلى كائن له “وزن” جمالي، وأصبحت له علاقة عاطفية بالمحبوبة. ما فعلته الأغنية هي أنها نسجت حوله هالة روائية جعلته رمزاً للرقة والحب.

شرقاً نجد فكرة ارتداء اقراط الهلال عند  حلي زينة قبيلة النارا  الذين بحسب قول رواتهم انهم كرميون اي ينتمون لمملكة كرمة النوبية وانهم كانوا يسكنون جزيرة صاي وعلى ضفتي نهر القاش، وهي الان موزعة ما بين كسلا وحلفا الجديدة وحولهما والبعض استقر في ارتريا و اثيوبيا. لغتهم اشبه باللغة النوبية و قد قارنها كلودي رايللي في كتابه:(اللغة المروية) ويسمى بالتلال ، بالتاء مفتوحة وهو حلق هلالي كبير يشبه حلية (القمر بوبا) عند الحلفاويين  و(الفدو )  عند الشمال والوسط و( الفدوة والفداو) عند قبائل غرب السودان و(العكش) عند الشايقية.

لذلك، تكمن قوة الرمز لأقراط القمر بوبا في مرونتها المذهلة؛ فهي تمتلك رصيداً رمزياً هائلاً من الماضي السحيق (الذي تؤكده الأركيولوجيا)، ويستخدم هذا الرصيد ليلعب أدواراً حيوية ومتغيرة في الحاضر (الذي يرصده التحليل الاجتماعي). إنه يربط أعمق طبقات التاريخ بأحداث معاصرة، وهذا هو سر خلوده وقدرته على أن يكون ذا معنى لجدة في طقس زواج، ولحفيدتها في ميدان ثورة.

وفقًا لمدرسة التحليل النفسي، كارل يونغ، اللاوعي الجمعي للبشرية مليء بالنماذج الأولية (Archetypes) البدائية والمشتركة. أقراط “القمر بوبا” تستدعي نموذج الأم العظمى والأنوثة المقدسة (The Great Mother & Sacred Feminine): فالهلال هو الرمز الأقدم للأنوثة الكونية. فهو يمثل دورات الطبيعة، والخصوبة، والولادة، والغموض، والحدس. عندما ترتدي المرأة هذا الرمز، هي لا تتزين فقط، بل هي تتصل نفسيًا بهذا النموذج الأصلي للقوة الأنثوية الكامنة في اللاوعي الجمعي. هذا يمنحها شعوراً بالاتصال بشيء أكبر وأقدم منها، بسلسلة لا تنتهي من النساء والأمهات عبر التاريخ.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *