للكاتب: حمزة موسى
عزيزتي الحالمة: ما الذي تفعلهُ الحياة بي؟ أنني أتعفن كل يوم، و كل ما أفكر فيه هو أنتِ، هناك الكثير الذي لم أقلهُ لك، و الكثير الذي لن أقولهْ. هل تصدقينَ إذا قلت أن للكلماتِ أرواحُ مثلنا و أنها تتوقُ إلى الحرية و تسمو لتصِلَ إلى مسامعِ أحدهم، أنها لا تحب أن تبقى حبيسةً في الصدور، و يعلم الله كم الأشياء المحبوسةِ داخلي، لدي الكثير من الكلام، ما يكفي لملءِ مجلدات لكن من في هذه الدنيا البائسة من يجلس و يستمع الى رجل حزين و هو يحكي هزائمه، و كيف لوح بقطعةِ بيضاء من زمن بعيد، أين أجد وسط كل هذا الجنون و في هذه البقعة الكالحة من يشاطرني هذا الحزن؟.
سألني صديقي قبل عدة أيام لماذا فجأة أغيبُ عن الناس، و أحبسُ نفسي في أماكنَ لا يعرفوها، وقتها تذكرتُ كل اللحظاتِ التي سألتني فيها نفس السؤال، و كان جوابي مشابهاً ” أنني حين أتالم أذهبُ بعيداً و أنبش نفسي ” لكن ما سبب هذا الألم! تقولين لي، أرد كما رددت كل تلك السنين : لا أحب أن اخبر أحداً.
غريب! اليس كذلك كيف أريد أذناً صاغية و أنا لا أحب أن أعري نفسي، و أن أترك الأخرين يتمشون على دمي، و لا تسيئِ الظن يا حبيبتي فأنا لا أنطلق من عقلية أنني رجل، و على الرجل أن لا يكون ضعيفاً و لو عُلِّقَ عارياً على باب المدينة، لا أحب هذه الفلسفة و أنبذها طوال حياتي، فأي رجل يترك حبيبته تمضي و هي لم ترى جانبهُ اللين!. و لكن لدي أسبابي، أولها أن لدي إيماناً خالصاً و لا يداخلهُ شك أننا وحيدون شئناً أم أبينا، لا نشعر بأحدِ خارج ذواتنا البسيطة، و ما أعنيه هنا أن لا شخص على هذه الأرض قد يشعر بما أشعر به، ربما يتفهم لكنه لن يفهم، بل أتطرفُ في هذا المنظور و أقول أن شخصين مرا بنفسِ التجربة المريرة لا يستطيع أحدهما أن يشعر بالأخر، كل ما يظهره أحدهما من تعاطف تجاه الأخر ناتج عن شعور كل منهما بذاته و ينطلق شعور التعاطف تجاه ذاته اولاً و اخراً. و كنت أحب دائماً التفكير في أن لدي وجوداً أخر غير وجودي، فأنا موجود داخلكِ و أعيش خلال اللحظات التي تتذكرينني فيها، و الكثيرين يقولون عليك أن تنسى كل شيء و لكن ذاكرتي هي سلاحي الوحيد في هذه المعركة غير المتكافئة، أحارب بها الحياة و أحافظُ بها على لحظات الطهارةِ الاولى، فكيف أعيش بدون ذاكرة؟.
و أنا على ما يبدو عليّ من العمر إلا أنني ما زلت طفلاً، اسابقُ السحب، و اتسائلُ لماذا يتبعني القمر هكذا، لا أعرف تلك الأرقام التي تضافُ لعمري فأنا ما زلتُ هناك حيث للأحلامِ وسادةْ تنام عليها و خبز ساخن في الصباح و زهرة، ما زلت ذلك الطفل مع بعض التعقيداتْ؛ فالحياة محمومة و فوضوية و تطلبُ مني ما لا أقدر عليه.
أعذريني على هذه الثرثرة التي تبدو فارغة، كل ما في الأمر أنني ممزق و صادق، و أحبكِ جداً.
لا يغركِ هذا الخراب فأنا ايضاً لدي أحلام و أشياء أصبو لها لكن هناك حزن لا أعلم مصدره و لا كنههُ يتسربُ إلى صدري كل مرة و يمنعني من التنفس، أشعر أن كل حياتي كانت عبارة عن سؤال لم تتم الأجابة عليه. كلها عبارة عن انتظار شيء ما ليحدث و لا أعلم ما هو.. كل ما أعلمه أني غريب جداً عن هذا العالم و هؤلاءِ البشر، لذا أخبريني ماذا أصنع؟ كيف أواصل في هذا الدرب الشائك؟.
لا أظن أنك تنزعجينَ من تأخرِ رسائلي، لكن سأقدمُ تبريري على كل حال يا شمسي و خطيئتي، و كل أسبابي،
فكرت في الكتابة إليكِ قبل عدة أيام، لم يؤخرني عنك سوى هذا الجسد و عدم قدرته على مقاومة الألم.
وجدتُ نفسي أفكر طويلاً في ماهية الألم، في محاولة لتبرير هذا الوجع الناتج عن غيابكِ، أن كل لحظة عبارة عن مجموعة متخثرة من الطعنات التي تمتد إلى الأبدية،
إن الألم الذي يمكن تفسيره_ مهما كانت رداءة التفسير_ هو ألم يمكن للإنسان أن يحتمله، و في اللحظة التي لا يجد فيها تفسيراً أو مبرراً لهذه الاوجاع عادة يقتل نفسه.
في المسلسل الذي أخبرتكِ عنه في رسالتي الاخيرة_ دكتور هاوس_ نجد دكتور هاوس و هو شخص أُصيبَ بجلطةِ في قدمه و يعيش في المِ مُزمِن، يخفي نفسه خلف السخرية و الذكاء الشديد و مسكِّناتِ الالم. واحدة من الحالات التي عمل عليها هو شخص دخل المستشفى في محاولةِ انتحارِ فاشلة، بسبب الم مُزمِن استمر معه ثلاثة سنوات، اقترحَ احد مساعدين د.هاوس أن الرجل بلا ادنى شكّ مصاب بالإكتئابْ، لأنه لابد أن يكون الشخص مجنوناً ليتخذَ مثل هذه الخطوة. اما أنا فذهبتُ الى أنه اكثر الأشخاص تعقُلاً، هل أكون مجنوناً اذا أردتُ انهاء هذا الالم؟ لا أنتظرُ منكِ جواباً و لا أضعُكِ في هذا الموضع، أعرف أنك ارقُّ من دمعة العين.
و فكرت لماذا عادة ما تكون حوادث الانتحار غريبة و غير مفهومة بل حتى مخيفة، هل لأننا نظن أن الألم دائماً يحاول أن يخبرنا بشيء ما، و أن خلفه درس ما يساعدنا على مقارعة الحياة؟ و لكن ” يا عذابي و خبز قلبي و مسائي الضاحك ” ما الدرس الذي يمكن أن استخلصهُ من هذه السياط التي تنهال عليّ من الداخل و الخارج؟ لكن هناك شيء ما بشأنِ هذه الحياة اليس كذلك؟ يد خفية تجرنا لنبحث عن هدف أسمى لهذه الجروح، لا أعرف ما هي لكن أعتقد أنها ذاكرتنا، ذاكرتنا عن تلك اللحظات التي جمعتنا معاً، لمحات النبؤة تلك التى منحتنا مياه باردة لغسلِ خطايانا.
أستيقظ و أنام… و أنام و أستيقظ، أدور حول نفسي كما تدور البقرة في الساقية، أجلس كل يوم تحت وطأة أفكار الموت، أخاف أن أسقط في ذلك الفراغ، ذلك المكان الذي بلا طعم و لا رائحة، أظل مستيقظاً كل يوم على أمل أن تأتي يديكِ بصباحِ جديد، لا تلوح فيه الدبابات و لا فوهات المدافع، صباح أقبّلكِ فيه و أذوبُ فيكِ كما السكر في فنجانِ قهوة و لكن الصباح لا يأتي و الآرق يسخر مني ككل مرة يقترب مني و يردد: ” أما أنا أو الموت “.
لدي إيمان قديم أن هناك فجوة كبيرة بين الشعور الحقيقي و بين الكتابة عنه، فجوة لا يستطيع شيء في الحياة ردمها، لذلك لا ألومكِ كثيراً عندما لا تفهمين مقدار تعبي و تعاستي، أنت يا من قبلك لا شيء و بعدكِ مستحيل، لكن غيركِ؟ غير ممكن ، و على كل ما الذي في قدرتي أن أفعله غير أن أكتب، أن أمنحَ أفكاري اجنحة، علّها تحلق إلى تحت جفنيكِ و تخبرني عنها.
إني أفكرُ في الحياة أكثر مما أعيشها و أقل بكثير من أن أفهمها، و لا زلت إلى اليوم لا افهم كيف تركتكِ تذهبين؟ بل كيف وقعت في حبكِ من الأساس؟ يا من تعرفين عني أكثر مما أعرفه أنا عن نفسي ، سيظلُ العلماء يختصرون الحب في مواد كيميائية و هرمونات و سيظلُ بعضهم يصدق أن ” كيوبد ” يطلق أسهمهُ على القلوب و لكني أعرف أن ما حصل بيننا كان أغرب و أعمق و أكثف من أن يفسر بهذه التفسيرات الباهتة، أنني أحبكِ بشكل يصعب تفسيره أو إستيعابه. و أظلُ أقولُ لكِ و أُناديكِ من خلفِ حجاب، و من تحت كل هذا الحمل على كتفي: تعالي! قبلة صغيرة منكِ تمنعُني من الموت!.
اترك تعليقاً