الكاتب : إبراهيم جعفر مكرم
1
في تمامِ الساعة الخامسة فجراً، على الطريقِ الفرعي، صدمتْ سيارة (جيب) مسرعة ”الزول“، وألقته على بعد عدة ياردات من الرصيف… كان صدى الاِرتطام رهيباً، لدرجة أن الأمهات اللاتي سمعن صرير اِحتكاك الدواليب مع الإسفلت صلّين لأجل أن يحفظ الله أولادهن… للأسف، فرَّ سائق العربة حين تأكد من خلو المكان، فر بخساسة ولم يترك وراءه أثر، قال: (لو كان في عمره بقية فسيعيش !)… لكن الزول، ورغم كل شيء، عاش. وبطريقة ما استطاع أن يزحف ويموضع جسده وسط الشارع.. لم يكن يشعر بالألم إنما بالخواء. واحتاج لجهد مقدر فقط كي يعي أن ما حصل الآن حقيقة. كان جسمه الهزيل يعوم داخل بركة من الدم الأحمر القاني.. وبالكاد، سمحت له الأنفاس الخافتة المتسارعة أن يصدر همهمات اِستغاثة. وما أن خطرت بباله فكرة أنه يموت وراودته الذاكرة حتى فزع وبدت له الدنيا متمددة ولا نهائية!
ظل الزول مرمياً هكذا على قارعة الشارع.. ومضى وقت طويل حتى سمع أزيز أول محرك يمر بجانبه.. كان لموتر ركشة، ترجل سائقها وطاف حول مسرح الحادث مرتين.. وسأل الجسد المكوم بلطف بالغ: (يا أخ، هل أنت بخير؟!)… لكن ما إن نظر إلى العينين الشاخصتين وتأمل بحر الدم .. حتى أدرك مدى غبائه. قال : (أوووه، مؤكد ليس بخير، إنه يحتضر!). وهمّ فوراً ليحمله إلى أقرب مستشفى حوادث ويهاتف الإسعاف… حينها –وعجيب أمر الناس هذه الأيام!– أعاد سائق الركشة تدقيق الأمور، وفكر بروية في أنه سيتورط في معمعة بلا طائل، وسيحشر نفسه داخل دوامة من سين وجيم الرب وحده يعلم أين تنتهي.. ولما لا، خصوصاً بأنه لا يملك رخصة قيادة، فستوجه له أصابع الاِتهام، وسيتحول -خلافاً لصورة البطل المنقذ- إلى مجرد جاني.. وإلى أن يظهر الله الحق، هذا إن حدث، فسيكون المسكين قد ضيع أجر عدة أسابيع كان يمكن استثمارها في علاج والده المريض أو الزواج من ابنة خاله العانس.. فلِمَ يتوجب عليه أن يكون “السوبرمان”؟! لذلك، ومع أول سانحة.. اختفى سائق “الركشة” وراء ستارة من الحجج المنطقية، أدار محرك موتره ذي العجلات الثلاث ولاذ أدراج الريح، قال : (حسناً، إن الوضع من السوء بما لا يمكن له أن يسوء أكثر!)
بيد أن الزول -وهو حتى هذه اللحظة مازال يموء تحت وطأة الألم- أحس برغبة ملحة في الضحك.. وواتته الطاقة -تلك التي تأتي للناس قبل فنائهم- قدر على إثرها أن باستطاعته النهوض ونفض الغبار ومن ثم سب جميع هؤلاء البراز… وهم فعلاً على ذلك، ورفع رأسه الثقيل متجاوزاً كل الصعوبات، وثنى ركبتيه وهو يدفع بدنه للأعلى، لكنه في الأخير سلّم للواقع الحتمي، وشرع بهدوء في عمليتي الاِحتضار والنزع.. كان الزبد يخرج كثيفاً من فيه والنزف يقطر من كل فتحات البدن. ومع بزوغ الشمس الأول، بكل ما يمكن لكوميديا العبث أن تكون.. مات.!
2
في الصباح عندما خرج الناس من منازلهم لمزاولة المهام اليومية، ولاحظوا الجسد الميت بتعابير وجهه البشعة.. تصنعوا عدم الاكتراث وواصلوا مشيّهم بانعطافة بسيطة حول المكان، غطوا وجوه الأطفال، كمموا الأفواه ومضوا في الحياة كأن شيئاً لم يكن، لكن بوخز خفيف في القلب…
وحينما كان لابد لأحدٍ منهم أن يتمتع بالنخوة، فقد آثر شخص شهم أن يُبلّغ الجهات الرسمية، اتصل مسرعاً بالشرطة متحملاً بسعة صدر أسئلة التحقيق التعسفية، نبرة الضباط الحادة التي لا يمكن لإنسان مهما كان أن يبتلعها.. ولمَّا فاق الوضع الوصف، ووجد الرجل نفسه خائفاً متعرقاً في حدثٍ لا يعنيه، أغلق بهدوء الخط، وبكل بساطة رحل في حال سبيله.
بعدها بدأ الناس يثرثرون، دون أن يشيروا بالتحديد للجثة، عن تجارب عامة للدماثة انتهت بالوقوع في أزمات لا حصر لها، وانطلقوا ينصحون أنفسهم بأن: (الخوّاف ربى عياله) و (الباب البجيب الريح …)، ثم يتذكرون بمرارة مواقفهم الشخصية، تلك التي احتاجوا فيها يوماً للمساعدة ولم يجدوا سوى سواعد الخزي.. فلماذا يكونون الآن مطالبين بمد يد المروءة؟!
انتشرت سراً حكاية الرجل الذي مات في الأرجاء، وبحلول المساء كان كل الأهالي قد لفقوا القصص حول ماهية الزول والطريقة التي لقي بها حتفه؛ قال البعض بأنه انتحر بسبب علاقة حب، وروى آخرون بأنه قُتل بواسطة تجار البنقو والسلاح، وغيرهم أكدوا بأنه دُهس من قبل رجال العصابات.. ولأنه في الأساس ما من شهود فقد كانت كل هذه الاحتمالات واردة مما دفع بهم لأخذ الحيطة والحذر.
في صبيحة اليوم التالي تواطأ السكان وخلقوا حلولاً جماعية مؤقتة بدت لوهلة وكأنها غير مقصودة؛ هجروا تماماً الشارع الفرعي سالكين بدلاً عنه دروباً جديدة، وقاموا بوضع مطبات تنبيهية في حال غفل أحدهم ونسي أمر الحادثة. ولأنهم كذلك أحسوا بشيء من الواجب تجاه الجثة فقد عيّنوا لها حارسين متخفيين يعملان بالتناوب، يحميانها من الكلاب والقطط وعبث الفضوليين… مع الوقت كانت الجيفة قد بدأت فعلاً بالتحلل، وأخذ لونها يتغير إلى الصبغة الخضراء الداكنة، وفقط خلال يومين انتفخ جلدها بالغازات، تفسخت وفاحت روائح العفن، وما إن رأى الناس ديدان الذباب والحشرات تعوث في جسد الزول إتلافاً مغيرة من سحنة ملامحه، حتى شعروا بالألم وتأنيب الضمير، لكن ليس إلى الحد الذي يسمح بالتدخل في ما لا يخصهم.
مرّت الأيام بطيئة، وكانت جثة الزول بفعل حرارة الصيف قد تحنطت بالكامل وأضحت سوداء متيبسة، وأيضاً محتفظة بذات تعابير القرف الأخير والعبوس، ومع أن الشارع الفرعي هو الطريق الأكثر اختصاراً إلا أنه لم يعد مستخدماً على الإطلاق، أغلقت كل أبواب المنازل المطلة، رُحِّلتْ المحال التجارية، وشيئاً فشيئاً تناسى الناس الحكاية، انغمسوا في مشاغلهم الرتيبة ولم يأتوا على ذكر “الزول” أبداً.
3
بعد مرور سنوات، نشأ فضول جمعي لدى الأهالي لمعرفة ما حلَّ بالجثة، خمنوا بأن تقلّب الفصول -من شتاء وأمطار وسيول جارفة- لابد وقد غير معالم كثيرة يتوجب عليهم مواكبتها، لكنهم تفاجأوا بوجود الحارسين المتخفيين اللذين مازالا يمارسان عملهما على أكمل وجه، فمنعا بحزم كل من حدثته نفسه بالاقتراب..
كان الشارع قد صار -بسبب الإهمال وسوء التصريف- إلى دربٍ أخضر مليء بالحشائش والنباتات المتسلقة، أشجار المؤتمر التي كانت في السابق هزيلة ويابسة نمت الآن إلى غابات متشابكة تعشش فوقها الطيور والعصافير، اِزداد النيم ارتفاعاً واعتلتْ النخلات خلياتُ النحلِ وبيوت الدبابير، وبات من الممكن -على بعد عدة كيلومترات- أن تُشمَّ روائح الزهور والفواكه. أيضاً حضرت قرود الطلح بحثاً عن بيئة موائمة لطبيعتها.. وأقسم البعض بأنهم رأوا أفاعي ملونة وقطط برية وقطيع غزلان. ومع أن الشائعات شملت كذلك حيوانات مفترسة و شياطين و “ود أم بعلو” -الذي زُعم بأنه هو نفسه الزول الميت- إلا أن رجلاً منهم لم يمتلك البسالة ليتأكد من صحة هذه الاِدعاءات.
هرب الحارسان، بالطبع لأن النُبل لا وجود له هنا.. وتدريجياً سقطت من عقول الناس الذاكرة الحافظة للسبب الرئيسي لهجران الطريق، واستمروا يقطعون الدروب الأخرى المزدحمة والمعقدة، فقط من قبل العادة لا أكثر ولا أقل. وحتى عبر الأجيال، من الأجداد إلى الأحفاد، لم يهتم أحد أن يعرف “كيف” و “لماذا”، ومن ثم لم يتسنَ لهم أن يدركوا مدى الخِسّة التي ظلّوا عليها.
4
أخيراً وعن طريق الصدفة، خطى أول إنسان على الطريق المنسي، كان مستعجلاً وخمن أن بإمكانه اختصار الوقت إنْ ما سلك الشارع الفرعي، وكما لو أن الأمر مجرد سحر فقد هاله ما رأى؛ مستحاثة تامة لهيكل “الزول” خلدتها الطبيعة رسوبياً، بوضعيته التي تحاكي الألم والقرف، وهيئة جمجمته ذات الابتسامة الساخرة…
مباشرة اِحتشد مئات الأهالي لمشاهدة الزول المتحجر، وبقليل من الدناءة تحول المكان لمزار مقدس وحديقة عامة، بنوا بوابتين للتحصيل على كل مدخل، وضعوا ألعاب ترفيه ومقاعد للعشاق، حضر الباعة المتجولون من كل صوب ونظمت رحلات فاخرة للسياح … وبطريقة ما أطلقوا على الموقع شارع الزول الوطني.
لكن ما كان ينقصهم فقط هو القصة؛ أي الإجابة الواضحة لاستفسارات الأطفال عن هوية الزول ورمزيته… ولأنهم اِفتقروا لأيقونة الشخصيات الملحمية، لسير الأبطال الشرفاء المناهضين ضد الظلم، فقد لفقوا له حكاية تسد ذلك النقص. قالوا: (الزول هو شهيد الثورة التي اقتلعت دكتاتوراً)، وليبدو الأمر أكثر واقعية قاموا بوضع صورته وسط العلم، أدخلوه في الأناشيد القومية والأغاني، في العملة وطوابع البريد، منحوه عيداً ثورياً ونحتوه في كل زاوية من زوايا الوطن.. بذات وضعيته التي تقلد الاِشمئزاز والسخط، وابتسامته الباهتة المثيرة للحنق.!
اترك تعليقاً