للكاتب : عبدالعظيم البنا
حكم الشطرنج يتراوح ما بين الحرمة و الكراهة عند كبار الفقهاء والأمر يحتاج إلى عالم ليفتي فيه وهذا كان عن شطرنج المسلمين الذي أخذوه عن الهند وعدل فيه الفرس بعض القوانين وأخذه منهم العرب بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس ليستمر بعدها قرونا طوالا قبل أن يغيره نصارى الإفرنج بعد سقوط الأندلس
القوانين الحالية تتطورت في أوروبا الغربية لأسباب أهمها نكاية في المسلمين وحب لمخالفتهم، فقد أعادوا تسمية الوزير بالملكة ومنحوها قوى خارقة تكريماً للملكة إيزابيلا القشتالية موحدة اسبانيا على أنقاض الأندلس ومسقطتها السقوط الأخير و مرسلة كولومبوس في رحلة احتلال أمريكا، فالوزير الملكة هو قطعة صليبية بامتياز ، هذا غير الصليب الموضوع على تاج الملك، وكنا نرى في كسره تطرفا آيديولوجيا لأنه موضوع بصورة عفوية ولكنه ليس عفويا، فالأوروبيون لم يصلهم الشطرنج من المسلمين وعليه صليب، و الشطرنج لعب دوراً كبيراً في الصراع الرمزي حول الأندلس كما في قصة وزير المعتمد بن عباد مع ألفونسو في حصار إشبيلية بعد سقوط طليطلة حيث استدرج الوزير الملك النصراني إلى مباراة شطرنج وهزمه هزيمة كاسحة كان لها دور في ترجيح الكفة الدبلوماسية للمعتمد، وأيضاً قبل سقوط قرطبة فقد سقطت راية الموحدين في معركة العقاب وكان على أحد وجهيها رقعة شطرنج وعلى الوجه الآخر آيات قرآنية، ولهذه الراية وزن كبير في القومية الاسبانية لليوم و لرقعة الشطرنج في راية الموحدين دلالة على التفوق الفكري لهم على غيرهم من الملل والمذاهب، وهكذا كان الشطرنج حاضراً في مراحل سقوط الأندلس الثلاث (طليطلة، قرطبة، غرناطة)،
فإذا كان الشطرنج بشكله الأول يتراوح بين الحرمة و الكراهة فأضف إليه في شكله الثاني تهمة العدوان على الإسلام والمسلمين
ظل العالمان الإسلامي و الغربي النصراني يلعبان الشطرنج بقوانين مختلفة، وكان المسلمون بارعين بصورة لا تقارن في نسختهم وكان الأوروبيون الغربيون ضعيفين في نسختهم حتى منتصف القرن الثامن عشر وكل الأسماء التي لمعت قبل ذلك ويحتفي بها المعاصرون أمثال روي لوبيز و ليغال لم يكونوا على شيء، وبإمكانك أن تنظر إلى جولاتهم المدونة لترى ضعفها وأن تنظر إلى جولات اللاعبين المسلمين و ألغازهم (منصوباتهم) مثل اللغز الذي وضعه أبوبكر الصولي في العصر العباسي ولم يحله إلا أفارباخ بطل الاتحاد السوفييتي بعد ألف عام والصولي أول من حل مسألة الحصان (تمرير الحصان على كل مربعات الرقعة بدون تكرار) والصولي أديب كبير ونديم خلفاء وهو سابق لتغير قوانين الشطرنج الغربية ولكن ذكرناه لنقارن البون الشاسع بين العالمين
أما بعد منتصف القرن الثامن عشر وبداية رجوح الكفة الغربية مع انتصارات البرجوازية الغربية في مجتمعاتها فقد بدأت قوانين الشطرنج الصليبي تصبح هي قوانين الشطرنج، وقد اضطر فتح الله شتما (والذي يسميه الغربيون فيليب ستاما) للعب بقوانين الإفرنج و خسر أمام فيليدور الفرنسي خسارة كبيرة، وفتح الله من نصارى العرب (وهم جزء لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية) من مواليد دمشق العثمانية، وهو من علم الغربيين فنون نهايات اللعب ومن أطلق كثيراً من التسميات على افتتاحيات الشطرنج مثل جامبيت الملك، وجامبيت الوزير، والافتتاح المفتوح ونصف المفتوح، وفيليدور هذا كان يعتبر من أعداء الثورة الفرنسية لقربه من الملك ولكن صعوده من قبل الثورة لا ينفصل عن صعود البرجوازية وروح الثورة الفرنسية، وقد علق كاسباروف على جملة فيليدور الشهيرة (البيادق روح الشطرنج) بأنك تسمع فيها هتافات الثورة الفرنسية الوشيكة
بانتصار القوانين الإفرنجية على قوانين المسلمين أضيفت للشطرنج تهمة أخرى وهي تهمة العفن البرجوازي ، بجانب الصليبية و تهمة الحرمة/الكراهة، وقد سيطر الفرنسيون على الشطرنج في العقود التالية فيما يعرف بالعصر الرومانسي للشطرنج (المتزامن مع العصر الرومانسي للأدب) وبلغ قمته عندهم مع لابوردينيه وقمة العصر الرومانسي عموماً عند الأمريكي بول مورفي من القرن التاسع عشر بالإجماع
بعد وفاة بول مورفي غيّر ابن جيله و مواطنه (النمساوي سابقاً) فيلهلم شتاينتز كثيراً من فلسفة اللعبة (لا قوانينهها) و وضع المفاهيم الاستراتيجية التي تجاوز بها العصر الرومانسي وأسماها المدرسة الحديثة (لتصبح عند اللاحقين المدرسة الكلاسيكية فكلاسيكية الشطرنج جاءت بعد رومانسيته على خلاف الأدب)، وظلت لعبة الشطرنج في الغرب ترفا برجوازيا لعقود أخرى تحدد مجتمعاتهم المغلقة أو شبه المغلقة أبطال العالم الرسميين (أولهم شتاينتز) وقبلهم غير الرسميين (آخرهم مورفي) عبر مبادرات فردية وجوائز يجلبها بعضهم للتنافس حولها ولا يسمع بهم ولا ببطولاتهم خارج دوائرهم أناس كثيرون مثل شلل جامعة الخرطوم و الألف نفر وأتني مع فارق أن أولئك برجوازية حقيقية وأن هؤلاء برجوازية رثة، إلى أن قررت البرجوازية العالمية في الغرب الرأسمالي و الشرق الاستاليني إنشاء الاتحاد الدولي للشطرنج FIDE بعد الحرب العالمية الثانية مثله مثل الأمم المتحدة و باقي المؤسسات الإمبريالية، فأضافت للشطرنج تهمة رابعة وهي تهمة الإمبريالية، وقد نشأ الاتحاد الدولي بعد وفاة أليخين بطل العالم لثمانية عشر عاماً، المفاجئة والمريبة وهو المطلوب عند البلاشفة بعد هروبه من روسيا إلى فرنسا مع اندلاع الثورة البلشفية كونه من أسرة إقطاعية كبيرة وشأنه في هذا شأن فيليدور مع الثورة الفرنسية، وقد خلفه في بطولة العالم بوتفينيك اليهودي محبوب استالين، وقد لعب الاتحاد الدولى للشطرنج دوراً كبيراً في الحرب الباردة حينما تمت تزكية بوبي فيشر للعب في البطولة الإقليمية وهو لم يشارك في بطولة أمريكا (ولو شارك لاستحق المشاركة في الإقليمية فقد شارك في بطولة أمريكا ثماني مرات فاز بها جميعاً)، وقد تنازل له أمريكي آخر عن خانته فلم يظلم فيشر شخصاً ولكن الاتحاد الدولي كان له غرض سياسي دبلوماسي من هذا الاستثناء العجيب في أشد فترات الحرب الباردة حرجا في أول السبعينات، وتدخل كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الصهيوني لتشجيع فيشر للعب ضد الروس وكان لكل هذه التراكمات وشعور فيشر بالاستغلال دور في حقده على اليهود (وهو منهم) و الأمريكان (وهو منهم) والاتحاد الدولي للشطرنج وكافة المجتمع الرسمي للعبة و اعتزاله في الحادية والثلاثين وهو اللاعب الأفضل في تاريخ مجتمع الشطرنج الحديث وقد كره الروس قبل ذلك في أول احتكاكه بهم ما عدا أشخاصاً طيبين وهما خصماه اللدودان ميخائيل تال و بوريس سباسكي، وفيشر كان قادماً من خلفية يتيمة فقيرة من خارج المجتمع البرجوازي
حتى كاسباروف وهو أكثر الناس اتباعا للباطل ومعرفة للحق، كلب صريح من كلاب الإمبريالية ضاق ذرعا بالاتحاد الدولي و انشق عنه وخلعه (وخلعه الاتحاد هو الآخر) ونظم بطولة للعالم استعادة لبطولة العالم الكلاسيكية (بطولة شتاينتز) التي سبقت الاتحاد الدولي (فلنسمها البطولة البرجوازية) و للاتحاد بطولته (البطولة الإمبريالية) حتى انتصرت الإمبريالية و أعادت البرجوازية العرجاء لمراحها في ٢٠٠٦م بتوحيد البطولتين تحت راية الاتحاد الدولي، وقد حاول كاسباروف عبثاً أن يفوز برئاسة الاتحاد الدولي في ٢٠١٤م على ما أظن ولكنه خسر خسارة كبيرة للروسي كيرسان المدعوم من بوتين و كيرسان رئيس سابق لإحدى جمهوريات الاتحاد الروسي، ولكن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا خصص الاتحاد الدولي محاكم تفتيش للاعبين الروس انتهى بحرمان بعضهم من لعب بطولة المرشحين (سيرجي كارياكين) ما لم يسب بوتين وقد رد بأنه شخص وطني قبل أن يكون لاعب شطرنج
وعليه فلكي نفهم حقيقة الشطرنج فلنعلم أولاً أنه محط التهم الأربع>
اترك تعليقاً