في المجتمعات التي يُكبَت فيها التعبير الصريح عن الجنسانية، تلجأ النساء إلى الرمزي، الطقسي، والحسيّ لإدارة رغباتهن والتعبير عنهن. حيث تُجسّد ممارسات مثل الدخان، الدلكة، الخمرة، البخور البلدي والعطور، منظومة حسيّة متكاملة تعيد صياغة العلاقة مع الجسد والرغبة. وتمثل هذه الطقوس بنية رمزية تُمارَس في الخفاء، لكنها تُنظّم وتُحرّك خيالًا جنسيًا واجتماعيًا واسعًا.
حفرة الدخان هي المسرح الذي يُدرّب فيه الجسد على الرغبة، لكنه لا يُرى إلا في المساحات الحريمية، فتظل الرغبة مقموعة ومرغوبة في آن.
الدخان، الذي تُعدّه النساء بحطب خاص مثل الطلح أو الهبيل، يمثل طقس تطهير وتعطير وإثارة. تجلس الواحدة فوق حفرة مشتعلة،مسورة ببرش سعف،مغطّاة ببطانية(شملة)، فتتسلل الروائح إلى مسام الجسد، تُلينه، تُعطّره، وتُحضّره للّمس والرغبة ليصير مكبرتاً.
الدخان يُعدّ طقسًا جنسيًا بامتياز في المخيال السوداني، خاصة عند الحديث عن العروس الجديدة (الحبسة-محل إشتباك قادم)-يصبح الجلوس على الدخان فعل مُكرر يوميًا في “زمن العرس. تتصاعد فيه أذرع الدخان، تلتف حول جسدها وتعبره. إنها طقس إيروتيكي مكثف، يُهيّئ الجسد لحضور الآخر.
لكن، هل هو فعل للزينة أم شكل من أشكال التهيئة النفس-جسدية للعلاقة الجنسية؟
وهل للرجل دور مقابل؟ أم أن المرأة تُجهَّز نفسها للرغبة التي لا تُفصح عنها؟
وهل يمكن قراءة هذا الطقس كـ”إيروتيكية شعبية” تُنتج الرغبة وتُبرمج الجسد، دون خرق قواعد العفّة؟
تدليك وتعطير الجسد بوصفه استعادة سيطرة
الدلكة هي معجون عطري يُستخدم لفرك الجسد وتنعيمه وتفتيحه. لكنها أيضًا طقس حميمي جدًا،يتم بين النساء، يتضمن تلامسًا جسديًا،وقد يُؤدى ضمن طقوس تجهيز العروس. كإعادة كتابة للجسد،من جسد “مُغلق” إلى جسد “مفتوح على اللذة”، لكن داخل حدود الزواج.
وهي أيضًا أداة تنافس رمزية بين النساء، حيث يُنظر للمرأة المُدَلَّكة بأنها “مضبوطة”، “نضيفة”، و”مُغرية”. تُمر اليد، على كامل الجسد، في حميمية تتجاوز معنى “النظافة”. هل يمكن اعتبار هذا الطقس تمارين جماعية للجسد والرغبة؟ وهل يحمل إيحاءات جنسية مثلية مُضمَرة؟
بمعنى،هل تفتح هذه الممارسات إمكانية لقراءة المثلية كجزء من الممارسة الطقسية؟ وهل تنفصل “التجميل” عن “الإيروتيكا” هنا؟
لتأتي بعدها، الخُمرَة أنثى الخمر،لكن يشربها الجسد الأنثوي ليتبخر إلكتروناً إلكتروناً و يصير مسكراً، ويصطلح أنها مستحضر عطري سوداني تقليدي يُحضر من نقع العطور الطبيعية في الكحول لأسابيع، لتخرج رائحة ثقيلة وغامضة، تُمسح على الجسد والمناطق الحساسة، وتُستخدم في ليالي الزواج، أو الليالي الحارة-أي التي يتبخر فيها جسدان في طريقهما إلى الطبخ.
تعمل على تأشير الجسد، لتصبح المرأة “موقعة بالرائحة”تُسبقها رائحتها، وتبقى خلفها كأثر جنسي، تُعلن حضور المرأة دون أن تتكلم. والمثير أن الخمرة تُستخدم في الزواج، لكن أيضًا في لحظات الوحدة، لتأكيد الذات والرغبة – سواء كان هناك شريك أم لا.
كما نجد الكثير من الروائح الساخنة مثل العنبر والمسك والقرنفل – مرتبطة بالإثارة. حتى الباردة، مثل الورد والفل – مرتبطة بالنقاء والبراءة.

بهذا المعنى،العطر يُصبح خطابًا جنسيًا صامتًا، تتفاهم به النساء مع أنفسهن ومع أزواجهن – دون أن ينطقن بكلمة.
فالبخور و(الكبريت) يخلق فضاءً حسّيًا متكاملاً، غرفة مظلمة، جسد مُدخَّن، بخار يتصاعد، إضاءة خافتة أو سرير بالغ من الليل، يُشكّل هذا المشهد خلفية لطقس جنسي داخلي، حيث تُستدعى الرغبة في هيئة “مزاج”، لا إعلان مباشر. ترى كيف تتشكل الهوية الجنسية عبر الرائحة في الثقافة السودانية؟ وما دلالة أن “الرجل يُفتن بالريحة” في خطاب شعبي يُدين الرغبة العلنية في الآن ذاته؟
وفي ظل خطاب ديني–ذكوري–رقابي يُجرّم الجنس خارج الزواج، تلجأ النساء إلى هذه الطقوس بوصفها، إعادة امتلاك للجسد،تفاوض غير مباشر مع السلطة الذكورية، مساحة رمزية لتكوين هوية أنثوية مرغوبة ومتحكمة بالرغبة. فالمرأة السودانية عبر هذه الطقوس، لا تقول “أنا أريد”، لكنها تُعِدّ نفسها لتكون “مرغوبة” وفق كودات اجتماعية محددة – وهي لعبة مقاومة ناعمة ومعقدة في آن واحد.
الدخان، الدلكة، الخمرة، البخور…نصوص جنسانية مشفّرة، تُروى من خلال الجسد والرائحة واللمس. وكلما زادت رقابة المجتمع، زادت براعة النساء في صناعة هذه الطقوس، كأشكال للسيطرة والتعبير والتجميل والتمكين – داخل منظومة تُحاصر الرغبة ولا تقضي عليها.
وهنا في السياقات التي تتداخل فيها السلطة الذكورية، التقاليد، والدين، يُمارس الجنس كبنية ثقافية–اجتماعية معقدة تُدار عبر الخيال، الطقس، والجسد. حيث تُمثل العفة والجهر بالعفة جزءًا من نظام القيم الاجتماعية، ويُعاد إنتاج الجنسانية في مساحات غير مباشرة، عبر الطقوس الحسية مثل حفرة الدخان، الدلكة، الخمرة، البخور والعطور، التي تتحول إلى لغة بديلة للتعبير عن الرغبة وتنظيم العلاقة بين الجسد والهوية. وتتعدى كونه سلوك جنسي أو بيولوجي إلى نظام رمزي يُنتج عبر الخطاب، الصورة، الإيماءة، والروائح. حيث يُقيد الخطاب الديني والاجتماعي التعبير الجنسي العلني، تُمارس الجنسانية من خلال طقوس يومية تُبقي الرغبة “حاضرة لكنها غير معلنة”. الجسد الأنثوي هنا موضوعًا للرغبة ووسيلة رمزية لإعادة التفاوض حول السلطة، التقاليد، والمكانة الاجتماعية. وتُدرّب البنات على الطقوس الجنسية، وفي نفس الوقت يُنظر للمرأة التي “تعرف جسدها” باعتبارها “مشبوهة”. وتظل تُمارَس السلطة والرقابة على الجسد الأنثوي تحت غطاء الزينة والحياء.
لنرى التناقض بأم عينه، في الأعراس،حيث يُحتفى بالمتعة والزينة والرغبة. وفي الحياة اليومية، يُدان التعبير عن الجسد والرغبة خارج الزواج. وكيف تُدرَّب الفتيات على طقوس الإثارة الجنسية في بيوت الزواج، لكن يُمنعن من الحديث عنها قبل الزواج.
وبينما يُمنح الذكور مساحة “الفضول” والخطأ، تُربّى الفتيات على الصمت والخجل، لكنهن يُحمّلن عبء الأداء الجنسي المثالي داخل الزواج!
ومن الذي يحدد متى تصبح الفتاة “مؤهلة” للرغبة؟ هل هو سنّ البلوغ؟ الزواج؟ نظرة المجتمع؟
و لماذا يُعتبر امتلاك المرأة لوعي جنسي مُسبق تهديدًا؟ وهل هذا مرتبط بالخوف من استقلالها الجسدي؟أن تتحول إلى جسد مرغوب فيه”، ولكنه في ذات الوقت يجب أن يكون “مؤدبًا”، “عفيفًا”، “نظيفًا”؟
وأخيراً،من الذي يقرر أن الجسد “جاهز” الآن؟ ولماذا يُربط التحوّل الجنسي للمرأة بالتطهير؟ هل الجنسانية الأنثوية خاضعة دومًا لمراقبة الطهارة؟
الجنسانية كمجال للمقاومة الناعمة
في الأدبيات الفلسفية والأنثروبولوجية، الجنسانية تشمل النظام الرمزي الذي يُعرّف “الرغبة”، يوزّع الأدوار بين “الفاعل” و”المفعول به”، ويُعرّف الجسد من حيث مقبوليته وفاعليته وحدوده.
من هنا، هل يمكن التفكير في أن المرأة تخلق لنفسها مساحة خفية للسيطرة على جسدها ورغبتها. وتُعيد إنتاج الأنوثة ضمن سياقها الثقافي، لا كنسخة من النموذج الغربي أو الخطاب الفقهي. وتُخفي تمكينها خلف لغة “الحياء” و”الزينة”، لكنها تتحكم فعلًا باللذة، التوقيت، والإغواء.وفي هذا المعنى، تُبنى وتُمارَس ضمن منظومة مشفّرة، تُفهم داخل الثقافة ولا تُشرح خارجها.
إنها تُقال بالرائحة، تُمارَس في الطقس، وتُدرَّب في الجسد.
تُعبّر النساء السودانيات عن رغباتهن، لكن عبر قنوات تُداري الرغبة وتُفرّغها من شُبهتها الأخلاقية. وهنا تكمن عبقرية الثقافة الشعبية في إنتاج خطاب جنسي خاص، ناعم، مقاوم، وعميق، يعكس التوترات بين الدين، السلطة، واللذة.
لكن هل تُمثّل هذه “اللغة الخفيّة” للجنسانية تكيفًا مع القمع، أم أنها تُنتج أشكالًا بديلة للتمكين الذاتي والمجتمعي؟ وهل في الصمت حول الجنس شكل من أشكال الإنتاج الرمزي يفوق البوح؟
وهل تُحرّر هذه الطقوس المرأة، أم تُكرّس دورها بوصفها موضوعًا للرغبة الذكورية؟ وهل هناك مساحة لمتعة أنثوية مستقلة، خارج سياق “إرضاء الزوج” أو “تهيئة العروس”؟
وكما يُحتفى بجسد العروس المدخن والمخمّر والمُطيّب، لكن الجسد ذاته يُدان إن عبّر عن نفسه خارج المؤسسة الزوجية.فهل تُدار الرغبة عبر اقتصاد أخلاقي–طبقي–جندري؟ وكيف نُفسّر هذا التناقض الصارخ بين اللذة المرغوبة والخطاب الذي يُحرّمها؟
وهل نحن بحاجة لفتح نقاش جاد حول الجنسانية في الثقافة السودانية، بوصفها مدخلًا لفهم السلطة والهوية؟ وكيف يمكننا كسر حاجز الصمت دون السقوط في فخ الاستشراق أو التغريب؟
وكيف نفكك هذه البنية؟ وهل تشكل طقوس الزينة النسائية فضاءً للتمكين أم وسيلة للضبط الاجتماعي؟ وما دلالة أن تكون الجنسانية مُمسرحة ضمن الطقس، لكنها مُحرّمة في الخطاب العام؟
وكيف تتشكل هذه البنية عبر الحياء والستر كقيم دينية/اجتماعية؟ومؤسسات مثل الزواج، الطهارة، الزفاف؟وطقوس الزينة كحالات جسدية تمهّد للجنس لكن لا تُفصح عنه؟
الجنسانية المحمولة في الشتات
الجنسانية في الشتات السوداني لا يمكن فهمها باعتبارها مجرد امتداد تلقائي لما كان في الوطن، ولا قطيعة نهائية معه. إنها فضاء هجين تتقاطع فيه الرغبة بالحنين، والطقس بالهوية، والبيئة الجديدة بعبء الرموز القديمة. حين تُنتَزع المجتمعات السودانية من بيئاتها الأصلية، سواء بفعل الحرب أو لأسباب اقتصادية، يُعاد تشكيل الجنسانية ليس فقط كمسألة فردية تتعلق بالجسد، بل كمنظومة ثقافية كاملة تحاول النجاة، أو التجدد، أو التحول.
البيئة الغربية، أو حتى الأفريقية المدنية في أوغندا مثلاً، تتيح أشكالاً من التعبير الجنسي أكثر تحررًا نسبيًا. لكن هذا الانفتاح يُفَرز عبر مرشحات ثقيلة من التربية، والهوية، والخطاب الديني والاجتماعي. في هذا السياق، يمكن أن تتحول طقوس الجنسانية – مثل حفرة الدخان، الدلكة، الخمرة، والبخور – إلى أدوات للتماهي أو المقاومة أو حتى الصراع الداخلي. فحين تُمارَس هذه الطقوس في سياق اللجوء، فإنها تُستعاد كممارسة مشحونة بالرمزية، بوصفها صلة مفقودة مع الوطن، ووسيلة لبناء “أنا” مألوفة وسط بيئة غريبة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هل تعني استعادة الطقوس مقاومة للانسلاخ الثقافي؟ أم أنها مجرد استعادة لرموز فقدت سياقها وتحوّلت إلى تكرار بلا معنى؟ وكما تحافظ الطقوس على معناها لأنها تُمثّل جماعة لا تزال تُصدّق بها. في حالات أخرى، تصبح الطقوس مثل قوقعة فارغة، تُمارَس دون إحساس جمعي بدورها، فتنقلب إلى عبء على الجسد، لا احتفاء به.
هذه الطقوس، حين تُمارَس في الشتات،قد تمثّل، في بعض السياقات، محاولة لاستعادة السيطرة على الجسد من قلق الغربة، أو حتى من قمعٍ داخلي غير معلن وليس بالضرورة إعادة إنتاج الأبوية ذاتها. هل يمكن، إذن، التفكير في حفرة الدخان كفعل ذاتي يعيد للمرأة السودانية الإحساس بالسيطرة على جسدها في بيئة تشظي؟ وهل تتحوّل الرغبة نفسها في الشتات من كونها منظومة اجتماعية إلى فضاء تفاوضي هش بين ما كان وما يجب أن يكون؟
أسئلة أخرى تفرض نفسها،كيف تتغير علاقة النساء السودانيات بجسدهن حين ينتقلن من مجتمعات مغلقة إلى مجتمعات أكثر انفتاحًا؟وهل يجدن في الطقوس القديمة نوعًا من التمكين أم من التقييد؟ وهل يمكن للجيل الجديد أن يعيد تعريف هذه الطقوس بوصفها أدوات لهوية هجينة جديدة، لا خضوعًا لتراث جامد؟
فالجنسانية في الشتات، بوابة لفهم أعمق لتحولات الهوية، والذاكرة، والجسد. وفي هذه المسافة بين الوطن واللجوء، بين الحنين والتحوّل، تكتب النساء والرجال السودانيون علاقتهم بأجسادهم من جديد، بمداد من الدخان والعطر، ومن أسئلة مؤجلة لم يُسمح لها يومًا بأن تُطرَح.
أظن أن علينا إعادة النظر في الجنسانية،كمنظومة ثقافية ذات طقوس ورموز وبنى خطابية وليست مسكوت عنه فحسب.تُشكل الجسد والهوية والعلاقة بالآخر. ولفهمها، علينا أن نعيد قراءة الدخان، الدلكة، والعطر بوصفها أفعالًا سياسية وثقافية لا تقل شأنًا عن الدستور والخطاب الديني.
اترك تعليقاً