للكاتب : محمد التجاني
“الناس قد يتواجدون في كل مكان، لكنهم لا يصادفون بعضهم الا في المكان المناسب”، خطرت بذهني هذه المقولة -التي لا اذكر قائلها- بينما انا جالس في صالة انتظار عيادة أسنان، يبدوا انها صحيحة، فما اكثر مكان مناسبٍ لتصادف فيه طبيب اسنان؟ عيادة اسنان؟، نعم انها صحيحة لكنها بلا معنى، صحيحة بلا معنى.
وكما عادتي السيئة في اوقات الانتظار، وجدت نفسي أتطفل على كل شيء، اراقب كل حركة و كل سكون، بدءاً بالحوائط، والمقاعد، فالسقف ،ثم علكة ابيضت في فم موظفة الاستقبال، فالسقف مجدداً و حتى الساعة التي تتوقف عقاربها كل دقيقة لتستريح ثانيتين ومن ثم تعاود دفع ساقية الزمان مجدداً، والمنتظرون يهمهمون ان ارتووا، لقد ارتووا زمانا، لكن من يبالي؟.
“اعتقد ان اسمه (جو)” قلت محدثا نفسي، فلم توحي إلي هيئة رجل كبير في السن لمحته جالساً بين الجلوس الا بتلك الكلمة، إنه يشبه الى حد ما اغنية رعاة بقر قديمة، اغنية تعيسة ومرحة في ذات الان، حياة راعي بقر في الغرب الامريكي لابد ان تكون معا تعيسة ومرحة، ماذا كان اسم الاغنية؟، نعم اسمها “جو العجوز الاسود”. أخذت أتفحص”جو” في كل تفاصيله مدندناً كلماتها:
“زهبت الايام حين قلبي كان شاباً و مرحاً..
زهب أصدقاء حقول القطن بعيداً ..
زهبوا من الأرض لأرضٍ أفضـ..”
قاطعت نظراته القلقة اغنيتي، لا، إن “جو” يحاول استراق النظرات، يبدوا ان بيننا اشياء مشتركة .. وكلما التقت اعيننا، تصنع النظر الى كل شيء الا انا..
لست متأكداً، ربما لم يتعمد النظر إلي..
على كل حال، هذا لا يهم، ماذا كنت اقول؟:
“زهب أصدقاء حقول القطن بعيداً
زهبوا من الأرض لأرضٍ أفضل أعرفها”
بدأ يتململ في مقعده، يمسح على شعره الأشيب، يحني راسه تارة ويرفعها اخرى ومن ثم يدندن اغانٍ خلقها لتوهِ. كنت لأفعل أي شيء مقابل سماع ماذا يغني،
بين الحين والاخر أراه يتلفت ليقرأ وجوه من حوله، هل هم من النوع الذي ينصت؟
“أسمع تلك الاصوات الناعمة تنادي:”جو العجوز الاسود””
أحسست به يود الحديث، اعرف هذا النوع من الناس، ذلك الذي يشعر بوحدة قاتلة رغم ان الكثيرين حوله، قد يسمعون احياناً ما يقول، يستمعون بآذانهم، لكنهم ابداً لا ينصتون.
التقت اعيننا في لحظة ما، ظللنا محدقين لبعضنا، وكأنما كنا نلعب تلك اللعبة الصبيانية، من ترف عينه يخسر، لم ارد اشاحة نظري ولم ارد الاستمرار في التحديق، في مثل هذه الحال، كل الخيارات سيئة، إننا راعيا بقرٍ متوتران، البلدة الموحشة ميدان معركتنا، حركة واحدة خاطئة وينتهي كل شيء، نادت موظفة الاستقبال باسم احداهن، فقامت عجوز كانت بجانبي وحالت في مشيتها البطيئة بيني وبين “جو”، لقد اعطت لكل منا فرصة ليشيح بنظره بعيداً.
“اني آتٍ ، اني آتٍ و رأسي ينحني منخفضا”
قام من مجلسه متجهاً نحوي، او ربما نحو مكاني، فعلى كل حال لست الا شخصاً ما لا يهم، وبعد لحظة صار جالساً في مقعد المرأة التي قامت لتوها . الان هو الوقت المناسب ليكون ما يريد. سيتحدث بلا مقدمات وفي اية لحظة، قلت سابقاً انني اعرف مثل هذا النوع،لن يسألني عن اسمي، او ان كنت ادرس ام اعمل ام لا، هل انا متزوج؟،وهل زوجتي متطلبة ام لا، هل انجبت لي طفلاً جميلاً؟، انه لن يفعل، و ربما ينتظر مني مقابلته بالمثل. لا يهمه من انا بقدر ما يهمه اننا هنا معاً و الآن، كل ما علي فعله الآن هو ان اهدأ و ابدوا منصتاً.
“اسمع تلك الاصوات الناعمة تنادي:”جو العجوز الاسود”
اني آتٍ ، اني آتٍ و رأسي ينحني منخفضا”
اتوقع انه سيذكر الكثير ، سيذكر اشياء كثيرة مهمة، وقد اكون محظوظاً، ويتكلم بعظيمٍ فعله ولم يدر به احد، انا فقط من سيعرف، حصل شيء ما اشبه بملحمة بطولية، وكان فيه جو الفارس المغوار، انه هو الرجل الطيب الشجاع الحليم الشريف الوفي الكريم له الاسماء الحسنى، بينما كل العالم غارق في قذارته آنذاك.
بالطبع سيذكر عظائم افعاله و ليس رياءً، لا، ليست الامور دائماً بهذه البساطة، كل شيء سببه قلق يخفق في الصدر، هذه الهيئة الضعيفة، كيف لها ان تحمل وجودي؟، جو ليس مخبولاً لكن فقط هكذا تسير الأمور. اعني، ليس هناك دليل كافٍ لوجوده هو قبل قليل جالساً صامتاً في مقعد والان هو في آخر .. احيانا، تكون الذاكرة هي الدليل الأخير على الوجود؛ لهذا، فلا سبيل إلا العراك مع العدم بالتصرف كالالهة الخالدة، بالتململ في عرشها، التسلي بخلق الدندنة و اخيراً بالتحدث بمجد الخلق امام العبيد.
“لما ابكي حين يجدر بقلبي ألا يحس بألم؟”
من يدري .. ربما كل ما جرى ويجري مزاح ثقيل .. علينا ان نطمئن انفسنا حيناً بعد آخر بالتحدث .. علينا ان نتحدث ..
انا اتحدث .. اذاً انا موجود! ..
سيملي اسماء كل مشاهير اليوم الذين تربطهم معه علاقة طيبة .. في الواقع، كانو جميعاً عاديين ولكن ولوهلة اختلفت الامور بينما استمرت كما العادة بالنسبة له، اليس هذا دليلاً واضحاً على مزاح احدٍ ما بقسوة؟!،
لكنه لا يبالي بالشهرة والمال،كل مافي الامر ان قلبه حزين؛ فالشعور بالوحدة هو اسوأ ما قد يشعر به رجل عجوز.
“لماذا اتحسر واصدقائي لن يأتون مجدداً؟”
سيتكلم “جو” في اية لحظة،انا موقنٌ من هذا،
لديه في داخل فمه لسان شهد سنيناً طويلة،
الم يمكنه من تزوق سكاكر مزهلة حين كان جو صغيراً؟، حينها جعل عيناه تتسعان دهشة. كبر جو قليلاً وجعل عيناه تغمضان حباً. حصل ذلك بعد ان تلوّى نفس هذا اللسان بكلماتٍ ثملة نعسة، واصل جو التقدم في السن، وفي يوم عادي، كأي يوم عادي تكون فيه الامور على طبيعتها، نفس طعم قهوة الصباج ونفس الجبن و الخبز، نفس دخان التبغ الرديء، فجأءة، أصاب اللسان خدر شديد، شيء ما فظيع يجري بالخارج، “جو” يشعر بكثير من الحزن دفعة واحدة، ومرارة اكثر ألمت بلسانه، يبدوا ان احداً ما عزيز رحل، عزيزٌ ما رحل، انقضى الحزن تدريجياً بعد فترة ليست بقصيرة، كما زال الخدر شيئاً فشيئاً، و من ثم وجد نفسه يغرق في كثير من الكحول، يبدوا ان للنحيب بقية، كان يغرق مراراً لكن بلا موت، يااه، هل تذكر السكاكر؟، تلك المرارة أنسته كيف كانت السكاكر، انسته طعم المحبة ، لا! لا تذكر المحبة!، كل من ذاقها يوماً تحتمت عليه المرارة ذات يوم، هكذا تعلمت كل الالسنة. قد يغرق بعدها البعض في اللامعنى او اللاطعم ، وقد ينجو البعض، ومن ينجو من الغرق يصير واهناً، قد يتزوق السكاكر وأحمر الشفاه، لكنها باهتة، بلا دهشة ،بلا حب.
“نحزن الان على أشياء غادرت منذ أمد بعيد”
هناك فترة فارقة في الحياة، قد نكون محظوظين في البداية لاننا احياء، قد نجد وقد نفقد، قد نشقى وقد نسعد، لكن هناك شيء ما نتفق عليه جميعاً، في فترة ما نبدأ بالانحسار، ان زهرة الحياة تبدأ بالزبول، ولا شيء حقاً ليكبح ارادة الفناء داخلها، ولا شيء ايضاً ليهديء ذلك الخفقان القلق في النفوس، لا شيء سيوقف الصراخ والنحيب في داخلنا.
على كل حال، سيحاول مواساة نفسه لا محالة،مواساتها و شَغلها بعيداً عن تذكر النهاية، شغلها بكافة الطرق..
“اسمع اصواتهم الناعمة تنادي:”جو العجوز الاسود””
لازلت احس به يتململ، يداه لا تمكثان على حال طويلاً،”زهب أصدقاء حقول القطن بعيدا”ً هناك اشياء ما لم يطلعني عليها بعد “زهبوا من الأرض لأرضٍ أفضل أعرفها”، اشعر بأمجاد الماضي تأخذ منحى الهيستيريا “لما ابكي حين يجدر بقلبي ألا يحس بألم؟” زادت حدة الاشياء، الرغبة في الخلق استحالت نزعة ماجنة للتدمير “اني آتٍ ، اني آتٍ و رأسي ينحني منخفضا” ، هل حانت النهاية حقاً؟ هل الاتي جديد تماماً؟..
تسمر جو في مكانه وصمتت الاغنية في رأسي،
نفث هواءً ثقيلاً قديماً، وكأنما كان يحمله منذ ولد.
عم السكون لبرهة ثم قال :”دنيا رايحة”،
هذا كل شيء؟ هل هذا كل ما ضاق به صدرك منذ البداية؟ كلمتان فقط:”دنيا رايحة”؟!
اين تلك التعاسة المفرطة؟، اين المرارة التي شل بسبها لسانك؟، الان يبدو عليه الارتياح بعد ان بصقهما عليّ.
قال جو:” هل تدرس؟”، قلت في نفسي ليس المفترض بك ان تفعل هذا، اجبت بالايجاب ، وكان سؤاله مستهلاً لحديث لطيف، اعتقد ان جو ليس تعيساً للغاية، اعني لابد ان يكون كذلك، لكنه ليس للغاية، كما ان اسمه “حسن”، لكن هذا لا يعنيني، كان يتحدث وحده، يسألني كثيراً احياناً واجيب باقتضاب، ويعم الصمت احياناً اخرى، لم ارد طرح الاسئلة، اخاف حقاً ان يفسد كل شيء، لا اعلم ربما يكون جو على شاكلة احد معارفي، كنت ذات مرة اجري معه حديثاً لطيفاً، قاطعني قائلاً :”انت تتوهم كل شيء”، انه احمق كبير، لكن جو هذا مختلف، على كل حال، ساكتفي بالانصات، هذا كل ما يرغب به رجل عجوز.
جو الان هاديء وخافت الكلمات، انها منسابة غضة متباعدة كشجيرات خلاة في طريق ترحالٍ الى الديار، لم يزل الديار بعيداً، من يدري، قد يكون قريباً للغاية، ربما هو ليس بكل هذا الجنون، الا يمكن ان يكون مظلماً ظلمة الاستلقاء في سلام؟. انبثقت بسمة مشرقة تلو أخرى عن ذكرى ما، ذكرى ما لم يتحدث بها، انها تخصه وحده، قد تكون النعيم او اللاشيء. اياً يكن، فالحبور يتملكه لأن لا جحيم.
-النص حائز على جائزة الطيب صالح للقصة القصيرة 2018
اترك تعليقاً