جالِبو المطر في إفريقيا: فنّ استدعاء العناصر وتسخير الغيوم

الكاتب: أولوبايو ستيفن
ترجمة: أتيم سايمون

تزخر إفريقيا بتاريخٍ عريق من المعتقدات الروحية والثقافية، يتمحور في جوهره حول قوى الطبيعة وعناصرها، ومن بين أكثر الممارسات إثارةً للدهشة تلك المرتبطة بـ جالِب المطر، ذلك الشخص الذي يُعتقد أنه يمتلك القدرة على التحكم في الطقس واستدعاء المطر في أوقات الجفاف.

ولا تزال هذه الممارسة حيّة في مناطق عديدة من القارة، حيث تواصل بعض المجتمعات الإفريقية استخدام هذا الفن حتى يومنا هذا، ويعود أصل جلب المطر إلى الأزمنة القديمة، وهو قائم على الإيمان بأن بعض الأفراد يمتلكون موهبة التواصل مع الأرواح وعناصر الطبيعة.

ويُعرف هؤلاء الأشخاص باسم جالبي المطر، إذ يستمدّون من صلتهم بالعالم الروحي قدرتهم على إنزال المطر وتخفيف وطأة الجفاف، وتظل هذه الممارسة شائعة في كثيرٍ من المجتمعات الإفريقية، إذ تمتلك كل منطقة أو جماعة إثنية طريقتها الخاصة والفريدة في أداء طقوس جلب المطر.

ومن بين هذه المجتمعات نجد مجموعة الدينكا في جنوب السودان، يعتمد الدينكا اعتمادًا كبيرًا على الزراعة في معيشتهم، وترتبط حياتهم ارتباطًا وثيقًا بهطول الأمطار. ويُعدّ جالب المطر، المعروف باسم بنج بيط او “سيد الرمح” ، عنصرًا محوريًا في ثقافتهم، إذ تُعد قدرته على استجلاب المطر عاملًا حاسمًا لبقائهم واستمرار حياتهم.

يُختار الـ”بنج بيط” منذ صغره، ويخضع لعملية تدريب صارمة تهدف إلى صقل قدراته وتنمية تواصله مع القوى الروحية،  وبعد إتمام تدريبه، يستخدم ارتباطه بالأرواح في استدعاء المطر من خلال سلسلة من الطقوس والمراسم التي تمزج بين البعد الروحي والموروث الثقافي لمجموعة الدينكا.

صورة تخيلية بواسطة الذكاء الإصطناعي

من أشهر طقوس جلب المطر في إفريقيا تلك التي يمارسها الشعوب الناطقة بالبانتو في جنوبي القارة ، ويقوم هذا الطقس على استخدام شجرة مقدسة تُعرف باسم شجرة الموبويو (Mubuyu)، ويُعتقد أنها تحمل صلة خاصة بأرواح العناصر الطبيعية.

وبحسب المعتقد التقليدي، يتعيّن على جالب المطر أن يقطع هذه الشجرة أولًا، ثم ينحت من جذعها وعاءً خاصًا يُعدّ مركز الطقس المقدس، بعد ذلك يُملأ الوعاء بالماء، ويشرع جالب المطر في أداء سلسلة من الرقصات والأناشيد الطقسية حوله، مستدعيًا أرواح العناصر والأسلاف لتلبية الدعوة وإنزال المطر من السماء.

  ومن المجتمعات الأخرى التي تمارس طقوس جلب المطر شعب الخويصان (Khoisan)  في جنوبي إفريقي،  وللخويصان أسلوبهم الفريد في هذه الممارسة، إذ يقوم بها مجموعة من الرجال يُعرفون باسم راقصي المطر.

يؤدي هؤلاء الرجال رقصة طقسية يُعتقد أنها تمتلك القدرة على التأثير في الطقس واستدعاء المطر، وتُرافق الرقصة ترانيم وأناشيد إيقاعية تُؤدى على وقع قرع الطبول، ويُقال إن صوت الطبول يحمل دعوات وصلوات شعب الخويصان إلى الأرواح، فيستجيبون لها بإرسال المطر من السماء.

لشعب الزولو في جنوب إفريقيا أيضًا طريقتهم الخاصة في ممارسة جلب المطر، ويُعرف جالبو المطر لديهم باسم الإيسانوسي (Isanusi)، وهم يحظون بمكانة رفيعة واحترام بالغ داخل مجتمعاتهم، إذ يُعتقد أن لديهم قدرات استثنائية مطلوبة بشدة في أوقات الجفاف.

يؤدي الإيسانوسي سلسلة من الطقوس الروحية التي يُقال إنها تربطهم بعالم الأرواح وعناصر الطبيعة، مما يمنحهم القدرة على التحكم في أحوال الطقس، وتشمل هذه الطقوس تقديم القرابين من الطعام والشراب، وذبائح الحيوانات، إلى جانب الأدعية والتضرعات التي تُرفع إلى الأرواح طلبًا للمطر.

ومن بين المجتمعات التي تمارس طقوس جلب المطر أيضًا شعب اللوو (Luo) في غربي كينيا، يُعدّ اللوو مجموعة إثنية اعتمدت منذ القدم على الزراعة كمصدر أساسي للمعيشة، وقد طوّروا نظامًا متقدّمًا لجلب المطر يجمع بين العلم والتقليد.

يستخدم جالبو المطر من اللوو مجموعة متنوعة من الأدوات والأساليب، مثل زراعة محاصيل محددة، وحرق أعشاب وتوابل معينة، وأداء رقصات وأناشيد طقسية خاصة لاستدعاء الأمطار، كما يعتمدون على علامات طبيعية للتنبؤ بقدوم المطر، من بينها أنماط تكوّن السحب وسلوك بعض الحيوانات، لتحديد الفترات الأكثر احتمالًا لهطول الأمطار.

ولا تقتصر ممارسة جلب المطر على مناطق محددة، إذ إنها شائعة في العديد من دول إفريقيا الأخرى، ففي غرب إفريقيا، يمتلك شعب اليوروبا في نيجيريا أسلوبه الخاص في هذا الفن، ويعتمد على نظام العرافة المعروف باسم إيفا (Ifa) يستخدم كهنة إيفا هذا النظام للتواصل مع الأرواح وطلب هطول المطر في أوقات الجفاف.

تختلف دوافع جلب المطر من مجتمع إلى آخر، لكن الدافع الأساسي يكون الحاجة إلى المياه وضمان بقاء الناس على قيد الحياة، ويُنظر إلى هذه الممارسة كوسيلة لضمان خصوبة الأرض وازدهار المجتمع، كما أنها تُعدّ طريقة للتواصل مع الأرواح وعناصر الطبيعة، معززة بذلك المعتقدات والممارسات الروحية للجماعة.

تختلف طرق جلب المطر من مجتمع إلى آخر، لكنها غالبًا ما تتضمن سلسلة من الطقوس والمراسم، وقد تشمل هذه الطقوس ذبائح الحيوانات، وتقديم القرابين من الطعام والشراب، إلى جانب الترانيم، وقرع الطبول، والرقص،  وغالبًا ما ترافق هذه المراسم أدعية وصلوات يُعتقد أنها تنقل طلبات الناس إلى الأرواح لتحقيق هطول المطر.

تتعدد وتتشابك أسباب ممارسة جلب المطر، فهي ليست مجرد طقس سطحي، بل ترتبط بشكل عميق بالاقتصاد والثقافة والروحانية في كثير من المجتمعات الإفريقية،  ففي العديد من هذه المجتمعات، تُعد الزراعة العمود الفقري للاقتصاد، وتعتمد نجاحات الحصاد على هطول الأمطار في الوقت المناسب، وعندما تتأخر الأمطار، تذبل المحاصيل وتموت، مما يؤدي إلى المجاعة والمعاناة، لذلك يُنظر إلى جلب المطر كوسيلة لضمان ازدهار المجتمع وحمايته من الآثار المدمرة للجفاف.

إلى جانب فوائده العملية، يحمل جلب المطر دلالات روحية وثقافية مهمة، فالكثير من المجتمعات الإفريقية تعتبر العناصر الطبيعية والأرواح التي تحكمها جزءًا حيويًا من عالمها، ويُعد جلب المطر وسيلة لتكريم هذه الأرواح وإرضائها، وغالبًا ما تُصاحب الطقوس والمراسم المتعلقة بجلب المطر الموسيقى والرقص واحتفالات أخرى تعمل على تعزيز الروابط الاجتماعية والحفاظ على التقاليد الثقافية داخل المجتمع.

ومع ذلك، لا تخلو ممارسة جلب المطر من الجدل والانتقادات، فبعضهم يعتبرها ممارسة خرافية أو غير علمية، مؤكدين أن العناصر الطبيعية خارج نطاق السيطرة البشرية، وأن جلب المطر يعد محاولة غير مجدية، بينما اتهم آخرون جالبي المطر بالاحتيال والخداع، زاعمين أن قدراتهم المزعومة ما هي إلا حيلة للحصول على المال أو السلطة، ورغم هذه الانتقادات، يظل جلب المطر جزءًا مهمًا من الثقافة والتاريخ الإفريقي.

في الخلاصة، يُعد جلب المطر ممارسة قديمة انتقلت من جيل إلى جيل في كثير من المجتمعات الإفريقية. ورغم تقدم التكنولوجيا والعلم، لا تزال هذه الممارسة مستمرة في العديد من الثقافات، إذ يعتبرها الناس جزءًا لا يتجزأ من تقاليدهم وأسلوب حياته، قد تختلف الأساليب والطقوس من مجتمع لآخر، لكن المبادئ الأساسية تظل كما هي، ويُنظر إلى جلب المطر على أنه عمل روحي يتطلب تدخل القوى الإلهية، والأسلاف، والعناصر الطبيعية. وعلى الرغم من عدم وجود أدلة علمية تثبت فعالية هذه الممارسة، إلا أنها تبقى عنصرًا مهمًا في الثقافة الإفريقية ومصدر فخر للمجتمع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ستيفن أولوبايو : باحث نيجيري متخصص في التاريخ الإفريقي والدراسات الدولية، معروف بدراساته حول التراث الثقافي والطقوس التقليدية في إفريقيا. يشارك أيضًا في الأنشطة الشبابية والدبلوماسية لتعزيز الوعي بالقضايا العالمية.

* أتيم سايمون : باحث وكاتب ومترجم من جنوب السودان، متخصص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *