للكاتب : أ. محمد مصطفى النور
ومن العناصر المهمة التي تكشف عن بروز القومية اليهودية ليهود السودان دلالات أسماء بعض أفراد الجالية، فالتلمود يذكر أن اسم الشخص يؤثر في مستقبله. فالأسماء تعبر عن نفسية الجماعة التي أطلقت الاسم، كما يشكل الاسم في نفس الوقت أحد أهم محددات سلوك المسمى بعد أن يعي المعنى المراد من الاسم. ونجد في العهد القديم بعض الشخصيات تغير أسماءها عقب المرور بتجربة مهمة لاستيعاب الدلالة الجديدة، ومن أشهر هذه الأسماء اسم إسرائيل نفسه الذي اتخذه يعقوب.
تدل أسماء اليهود في السودان على تأصل الثقافة الدينية اليهودية، وهي أهم الروافد التي غذت الشعور القومي لليهود في السودان، ومنها الأسماء التوراتية مثل: يعقوب ابن إسحق وهو اسم توراتي)، إسحق وهو ابن إبراهيم، ومعناه يضحك وسمي بهذا الاسم لأن إبراهيم وزوجته ساره ضحكا عندما سمعا البشرى بأنه سيكون لهما ابن وهما في الشيخوخة)، إبراهيم (وهو أبو اليهود وكان يدعى أفراهام فتغير اسمه بأمر الرب إلى أفراهيم)، بنيامين الأخ الأصغر ليوسف، حزقيال، إسرائيل (وهو الاسم الذي اكتسبه يعقوب بعد أن صارع الله، ويطلق على نسل يعقوب والأسباط الإثني عشر)، شاؤل (اسم ورد لشاؤل بن قيش، الملك الأول لبني إسرائيل، شمعون ورد اسماً للابن الثاني ليعقوب وليئة، موسى وهو موشيه، ومعناه المنتشل من الماء وهو الأخ الأصغر لمريم وهارون وابن عمرام ويوخا خيد)، داؤود ملك إسرائيل)، سليمان وسولومو وشلومو وسليمان هو الملك الثالث بعد أن عرف بنو إسرائيل الملكية، إستير (اسم ملكة يهودية وبطلة دينية تم تخليدها في التاريخ اليهودي لأنها أنقذت عمها مردخاي وجميع يهود فارس من المذبحة التي كان قد دبرها هامان وزير أحشويروش ملك فارس). ومن أسماء يهود السودان ذات البعد الديني القومي الأسماء المقرائية مثل : آرون وهي كلمة عبرية تعني التابوت أو الخزانة، ويقال أنها إشارة إلى تابوت العهد أو الخزانة التي حفظت فيها لوحات العهد في هيكل سليمان). وهناك أيضاً الأسماء المرتبطة بالإله مثل: إيلي (وتعني إلهي)، إليعازر إلهي المستعان)، إلياهو هو الله)، دانيال الإله العادل). ومن الأسماء الدالة على فكرة القومية العنصرية اسم بن زيون أبناء صهيون). وتعكس جل أسماء اليهود في السودان توجهاً دينياً توراتياً عميقاً.
وعززت زيارات كبار اليهود ذوي النزعة الصهيونية إلى السودان من التوجه القومي الذي ابتدرته الجالية اليهودية في السودان منذ أن اختارت اسم مكابي عنواناً لنشاطها الرياضي والاجتماعي، وإصرارها على ترديد أناشيد الهاتيكفاه. ففي عام ١٩٣٤ زار السودان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية السيد ناحوم سوكولوف وهو من كبار المعجبين بثيودور هرتزل وقد انضم إليه ليعمل كسكرتير عام للمنظمة الصهيونية التي أسسها هرتزل، كما شارك ناحوم في المفاوضات اليهودية التي توجت بالحصول على وعد بلفور (۱۹۱۷). وتولى رئاسة الوفد اليهودي لمؤتمر السلام في باريس (۱۹۱۹). وأخيراً تولى رئاسة الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية، وله عدة كتب وترجمات أهمها كتابه تاريخ الصهيونية الذي يحلل فيه الجذور الغربية للفكرة الصهيونية، ويعد أول تاريخ للصهيونية وبمنزلة تاريخها الرسمي. ولعل الاستقبال الكبير والحاشد الذي لاقاه من الجالية يعكس مدى تنامي الشعور القومي لليهود في السودان. وقد أعد له حفل استقبال كبير في نادي مكابي الرياضي حضره جميع أفراد الجالية بمن فيهم المترددون من نساء وشيوخ. بل وقادت الجالية مسيرة صغيرة للترحيب بالضيف الكبير.
وزار السودان أيضاً إسحق حليفي هيرتزوج كبير حاخامات اليهود الأشكناز في إسرائيل، ووالد حاييم هيرتزوج رئيس الكيان الصهيوني (۱۹۸۳) – (۱۹۹۳) وكان استقبال اسحق حليفي أكثر حيوية من استقبال ناحوم سوكولوف. فأعدت له الجالية استقبالاً كبيراً بالمعبد اليهودي بالخرطوم، وجمع له الأطفال في المعبد ليقوم بمباركتهم ويعكس هذا الأمر نوع التنشئة الاجتماعية التي كان يتلقاها أطفال الجالية اليهودية في الخرطوم. وكان لهاتين الزيارتين المهمتين وقعهما في نفوس أفراد الجالية اليهودية وبث الروح القومية فيهم، فكيف عبروا عن هذا الشعور ؟
كان أول شكل من أشكال التعبير الصهيوني للجالية اليهودية في السودان هو مشاركتها الراتبة في الكتابة لصحيفة الشمس اليهودية الأسبوعية التي تصدر من مصر، وهي صحيفة يهودية باللغة العربية بدأت في الصدور عام ١٩٣٤، وكان يرأس تحريرها سعد يعقوب مالكي، وهو من كبار الصهاينة في مصر.
وعبرت الصهيونية عن نفسها صراحة في السودان بقدوم الكسندر بن لاسين، مدير قسم الاستيراد بشركة راي إيفانز ، إلى الخرطوم وهو صهيوني بارز من الإسكندرية. ويبدو أن مهمة ألكسندر لاسين الأساسية كانت تجنيد عدد من الشباب اليهودي الذي وفد إلى الخرطوم، ولا نعرف تحديداً ما هو الغرض الذي كان يُجنّد له هؤلاء الشباب، لكنه يبدو من البديهي أن البعد الصهيوني كان حاضراً في هذه المهمة. كما أصبحت الجالية مكاناً يحتشد فيه يهود اليمن وأثيوبيا وإرتريا قبل ترحيلهم إلى إسرائيل، وكانت الجالية اليهودية في السودان تقوم بواجب إسكانهم وإعاشتهم وترحيلهم بالقطار إلى بورتسودان، ثم يتولى بعض أفراد الجالية في بورتسودان ترحيلهم بواسطة الزوارق إلى حيفا.
وكان قمة تجلي الشعور القومي اليهودي وتعبيره العملي الصارخ عن نشاط صهيوني في السودان يتمثل في إنشاء فرع المنظمة بناي بيرت في السودان. فما هي هذه المنظمة؟ وما هي أنشطتها ؟ وكيف تأسس فرعها في السودان؟
تأسست منظمة بناي بيرت في بادئ الأمر كهيئة يهودية أخوية بهدف توحيد الإسرائليين للعمل من أجل تنمية مصالحهم العليا ومصالح الإنسانية”، وكان شعارها المعاملة الطيبة والحب الأخوي والتوافق بين اليهود” وقد نمت بناي بيرت حتى أصبح لها فروع في ٤٥ دولة، وتضم نحو ٥٠٠ ألف عضو. وكانت منظمة بناي بيرت، ومعناها أخوان العهد، قد نشأت منذ عام ١٨٤٣ . ثم أنشأت فروعها في كل من القاهرة والإسكندرية عام ۱۸۹۱ كمنظمة خيرية. ولابد أن تصريح بلفور قد أعطاها روحاً جديدة تجلت في اتساع قاعدتها لتفتتح فرعاً لها في السودان.
ففي عام ١٩٣٤ قام أمين مال منظمة بناي بيرت في مصر، ورئيسها فيما بعد، السيد عزرا رودريجيز بزيارة للسودان اجتمع فيها مع أعضاء الجالية، ومع مجلسها ، لمناقشة مسألة تأسيس فرع للمنظمة في الخرطوم كجزء من المنظمة الإقليمية بالقاهرة. وفي ديسمبر من نفس العام، وبحضور عزرا رودريجيز تم افتتاح فرع لمنظمة بناي بيرت في الخرطوم، وأعطيت اسم بن زيون كوشتي، ولعله الاسم الذي لا خلاف عليه في السودان والذي سيضمن التفاف أفراد الجالية اليهودية حول المنظمة الصهيونية الجديدة. وشهدت مباني المعبد اليهودي في الخرطوم الاجتماع التأسيسي للمنظمة حيث تم تكوين مكتبها التنفيذي من إبراهيم سيروسي رئيساً، الحاخام سولومون ملكا راعياً، الدكتور سليمان بسيوني نائباً للرئيس، إلياهو ملكا وليون أورتاسي نواباً للرئيس وسكرتارية للمنظمة. وقد شارك يهود السودان بفعالية في هذه المنظمة، وكتبوا في مجلتها الدورية بناي بيرت مقزين Bhai Birth Magazine ، ومن أبواب المجلة نافذة تطل على يهود السودان اسمها “يهود السودان Jews of the Sudan.”
ولما كان رئيس فرع المنظمة في السودان إبراهيم سيروسي، هو في نفس الوقت رئيس الجالية اليهودية في السودان وراعي المنظمة هو القائد الديني للجالية، فيمكننا أن نستنتج أن التلازم بين اليهودية والصهيونية في السودان كان قائماً بشكل مركب فكرياً وتنظيمياً، ولعلنا لا نعدو الصواب إذا حكمنا بأن معظم أعضاء الجالية اليهودية في السودان كانوا في نفس الوقت أعضاء المنظمة الصهيونية في السودان. ولعل مصائر أفراد الجالية اليهودية في السودان بعد مغادرتها تؤكد ما ذهبنا إليه إذ توجه جزء كبير منهم إلى إسرائيل وعاشوا فيها كيهود وكصهاينة بالضرورة. والتحق الآخرون منهم بالمنظمات الصهيونية المختلفة ومنها منظمة بناي بيرت في فرنسا وفي الولايات المتحدة، وتقلدوا منها أوسمة الخدمة الممتازة.
*سلسلة مقالات من كتاب النشاط الإقتصادي والإجتماعي للجالية اليهودية في السودان (1899-1956)م للكاتب : أ. محمد مصطفى النور
*الصورة : زواج عائلة يهودية في الخرطوم عام 1930م
اترك تعليقاً