تلغراف – إلى إيمان مصدق

·

·

للكاتب : أحمد الرمادي

____

لطالما آمنت أن القمر الحقيقي هو الذي لا يضطَّرنا للخروج للشُّرفة أو المكوث في الأماكن المكشوفة ، هو هذا الذي يدخل أبعد من غرف نومنا المعبأة بالوحدة وبالأسف الذي ينام بهدوء وسط ملابسنا على الخذائن والشمَّاعات ، أبعد، أبعد كأرواحنا مثلاً وها أنتِ كعادتك تطلِّين يا إيما، وتفنِّدين أكذوبة القمر المذكر وهذه لعمري حجَّة بالغة ..

لقد مضى زمن طويل مذ آخر مرة كتبت لكِ فيها ، أعذريني فأنا مذ وهبتنِي العصافير من سمائها لا وقت لي تحت الأفق، كنت سأكتب لكِ في الخامس والعشرين من يناير لكنِّي ثملت وقلتُ تكونينَ أقرب إليّ منّي في الأحلام وغفوت على غيبوبة ملؤها رمل حيشان الجزيرة ومن حولي الأزهار ، ثم دنا صوتك وصعدت ، انحنيت لكِ، فتدلَّت الحِيشان ، ألف وردة روتها منابعك حاننتنِي بالزيارة ، وفي السابع والعشرين كذلك بيد أنني كنت جريح وأنزف بالإنابة عن غزال بعيد ، قلت جلَّ من لا يسهو ، أو ربما الأيادي التي على جيوبي تخصُّ أناسًا غرباء وإستحيتْ ، إستحيتُ أن أكتب لكِ بدماء غريبة ..

و في الفاتح من فبراير كذلك.، قبل أن يُدمى بالكامل، جسد الجزيرة ، وفي مارس ، الذي مر حارقاً كعادة أيامه ، وفي أبريل الذي وجدني وقد أكلتني الثورة، في مايو ويونيو ، ويوليو، وأغسطس، وسبتمبر وأكتوبر يا إيما،

وحيداً ودّعتُ صديقي مكي أحمد، وحيداً، ومن بعده محمد المكي إبراهيم، ثم الأصدقاء والأهل والأقارب هنا وهناك، حتى قبل أيام قليلة من ظهورك كوردة بريّة أقصى غرب الجزيرة ،

بعد أن استعصى على الدروب الشرقية استيعاب خضرتك ،

ودعنا كلنا كسودانيين، شاعرنا وفناننا هاشم صديق رضي الله عنه وأرضاه .

مكثت ،محاولاً الكتابة حتى إنصهرت بدلاً عن الشمعة التي من المفترض أن تضيء هذه الغرفة اللعينة وتذكرتكِ ، تذكرتكِ وأنتِ تحاولين أن أسمع أسمى مباشراً في النداء ” أحمد ” وأضئْت كلِّي ..

أعانقكِ الان بطريقة مفاجئة وجديدة، كذاك العناق الذي كنت تحلمين به عندما كتبتِ لي ذات مرة ،

” العناق الذي تصير فيه عقارب الساعة أليفة وتذوب فيه الفصول والأيام، لا ليل لا نهار لا مسافات ، ينتهي ليتكرر “

وتحسَّرت ، نعم تحسَّرتُ كثيراً ، أكثر من العجوز غووته عندما دعى أولريكه فون لشرب الشاي وطلب يدها للزواج ورفضتْ ،

ها أنتِ مجدداً تراوغين .. !

أنتِ المشاكسة تدغدغينَ جسد الشتاء بالتراحيل، ويحبِّك وحدك ، أنتِ يا حانةً كاملة، مغطأة بالثياب حتى لا يثمل منك الودعاء مرَّتان.

أولاً سمعت كثيراً عن نيتشه ولم أقرأ له بصراحة غير القليل من الإقتباسات التي أصادفها هنا وهناك فأنا لستُ مثقفاً ولا أحبُّ أن أكون مثقفاً يكفيني من المعرفة أن أقرأ المرأة في عزلتها من الغلاف إلى السلاف ، ونيتشه هذا لو رآكِ قبل أن يقول مقولته هذهِ لقال ” الأفكار التي تقفز حين تتمشَّى إيما، وحدها ذات قيمة، ثم إن المثقفون هم أكثر الناس قدرةً على الخيانة لأنهم الأكثر قدرة على تبريرها كما يقول الرفيق فلاديمير لينين ، لذلك لست مثقفاً أنا أكره المثقفين ،

وأكره أفلاطون لأنكِ تكرهينه والعقَّاد كذلك وأكره كل شيء تكرهينهُ يا إيما ..

كم زهرةً شرِبت من حنانك هذا المساء ..؟!

وكم وردةً نالت شرف أن تلمسها يداكِ هااا .. ؟!

أحتفظ الان بالكثير من الورد والزهور التي تنمو من لطافتِك

على باحة البيوت ، الكثير منها على قلبي قبل شاشة هاتفي الصغيرة ، أصحو في الصباح كما تفعل العصافير والنهار، مثل

كفراشةً أطوف ، يا

حديقةً تربِّي حديقة

وردةً تتسكَّع في روحها

يا بساتين .. يا جنائن

وضعتُ صورةً لكِ وأنت بين الزهور التي تشتلينها فيَّ

فأنت حقاً تشتلينها هنا تماماً لا في الأصايص المعبأة بالتراب ،

ما رأيك أن تنظري هذه المرة عبر هذه المرآة المتوردة بك،

فهي مرآتك ذاتها تقفين أمامها كل يوم وكل ساعة لكنَّك دوماً مشغولة بالكتابة والطبخ وتنظيم الرمل المفروش ومشاهدة مقدمات الأفلام وبليليث تلك الجنِّية الشبِقة التي تؤججك مراراً ..

أنظري كم تبدين أجمل من الزهور كلها يا زهرة الجهنَّمية ..!

ليست مقارنة أو مقاربة ، لكنِّي أحاول تهذيب روحي بالجمال الكثيف ، فأنا إذ أورّطها بالحنان، روحي تصير سمحةً

ومخضرة ، تصير فاكهةً يا إيما ،،

يقول البستانيّ

أين تباع هذه الزهور ..؟!

هذه زهور اللّه

هكذا نقول

والله لا يبيع الزهور

وأغمسني بعيداً عن متناول الأيام ، اغمسني في الصورة الذهبيَّة التي تتكئِين فيها كجزع صبَّار حزين ، أغمسني فيك في هدفك الذهبيًّ الذي تحرزينهُ كل مرة بعد إنتهاء الحياة بأشواطها الرسمية والإضافية وأوقات فراق حكوماتها التي تلعب فيه بجماجم الشعوب حتى إنتهاء عطلتها ،،

يا إيما إني مثلك فقير بن فقير ، أخاف عليكِ منّي

أخاف أن أحجِّيك عن الغربة والأناشيد الوطنية الحرام

اخاف عليك من أسرار البلاد والأسواق والنفايات وطاولات القمار التي تكتظ بها الدواليب من حولنا ،،

اخاف عليكِ من هجرةً لا إلى الله ورسوله ولا إلى دنيا تصاب

ولا إمرأة ننكحها ولا امرءٍ نحبّه أو يحبّنا ،

أخاف عليك من الحشرات يا ورقة التوت ومن الجنود والرمل والمسافات ،

وأخاف ..

أخاف الطريق الما بودي ليك

سيأتي زمان كثير يستعصي علينا فيه الكلام، لكنّا على الدوام

كويسين وأمورنا طيبة مستورة والحمد لله كما نقول في الأفراح والأتراح ، شداد ولضاض حتى في الزمان الذي سيجيء محملاً بالعبث والموت المجاني البذيء ..

أراكِ مفتونةً بالروس وبالشخصيات والسيناريوهات التي تعيدين حياكتها كل مساء اسمع الان تعليقك الناعم المثير ،

” أنا أحب هذا “

وأنا أيضاً أحبه لأجلك وأحب كل شيء يحبّه الأصدقاء بلا أي تردد، وأكثر أكثر من الروس أحبُّ الفودكا الروسية الخام بنسبة كحولها المائة بالمائة ،

أكتب لك اليوم في طقس شديدة البرودة مع هطول مستمر للأمطار بصورة متقطعة طوال اليوم وأنا في أخر المكان على الزاوية تماماً، عند الطاولة الأخيرة تحت إضاءة خافتة للشمع الأثيوبي الأبيض في حانة الأم سلام قبراب هنا على أطراف المتمة أعلى تلٍّ صغير أضيء المكان كلُّه بالتسامر معكِ على الورق ، المكان المظلم لإنقطاع التيار الكهربائي هنا ، لكنَّك تضيئنهُ يا إيما وهذا لوحده ثمالة أثمل من أن تباع في بارات أحفاد الجد سيلاسي ..

تعرفين، وهذه ليست إجابةً عن تساؤلاتك التي تحوِّلك كل ليلة لحجرة كبيرة يملأها الأرق ،

” نعم الرجل الذي تحبِّينه يسكنه القمر “

وأغلق عيناي كي أستوعب روحي فيك ، تكون السماء غير السماء البعيدة ، قريبةً تبدو، والطيور تحلِّق من أكتافي على سماء صدرها على رأسي ويداي، نجمةً نجمة لاتتناول من مدى الله الفسيح غير تفسير حكمة الكمال في ثلث من الليل تضيئهُ أوراد الجمال ، تطلِّين منِّي عليَّ وأطلّ كزهرةً غرستها يداكِ ..

رويان محنَّة

ومُستكِين

زي رملة ناعمة

في حوش، مفرّش بالبنات

مستنِّي رشّه.

ومشتاقين ،

قدر النزوح ما انشرّ بالأحباب

وأكتر .. كتيير

___

صديقك _ أ / م

الأحد _ ١٧ نوفمبر _ تشرين الثاني _ ٢٠٢٤ م

السودان _ القضارف


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *