بقلم : بول مثيانق
في السهول الممتدة على ضفاف نهر “كير” (المعروف حسب جغرافية السودان بـ”بحر العرب”)، حيث تلتقي حدود السودان وجنوب السودان في احتضانٍ جغرافي وسياسي مُلتهب، تقطن قبيلة الدينكا نقوك، إحدي قبائل المجموعة النيلية المعروفة، التي تمتهن “الرعي” وزراعة المحاصيل الموسمية، مع ارتباط وثيق بقطعان الماشية(الأبقار) التي تشكل لها رمزاً للثروة، والمكانة. و التي حفرت وجودها في تربة (أبيي) الخصبة، وتُنسج الهوية عبر طقوس دموية وشعرية، رمزاً للصراع على الهوية والانتماء هناك، حيث تُمارس القبيلة عاداتها كحصنٍ ثقافي تشمل طقوس إبتدائية أسوي ببقية أقرانهم من الدينكا، مثل ختان الذكور و إزالة بعض أسنان الفك الأسفل و ثقب الأذنين عند الغلام، والتشليخ(قيير نم)، وندوب الجلد للإناث والتي تُرمز إلى الانتقال إلى مرحلة النضج، وتراث شفهي عبر القصائد والأغاني التي تمجد بطولات الأجداد وسيرتهم، وتسرد الأحداث المهمة، والأحاجي، و يتكون تركيبتهم الإجتماعية إلى تسع عشائر (وود) تُشبه أعمدةً تحمل سقف الهوية الجماعية هم:
أنيل، ألي، أشاك، أبيور، أشوينق، بنقو، مارينق، مانيوار، ديل.
كل عشيرة—بزعيمها الروحي—تتشعب إلى فروع (ضين) وعائلات مترابطة بالدم والنسب، لكنها تُوحَّد بنظام عمراني فريد، وتتميز هذه التركيبة بنظام إجتماعي معقد يرتبط بالفئات العمرية (الأجيال أو “ريج”) فهي ليست مجرد مجموعة بشرية، بل كيانٌ مؤسسي يُحدد الأدوار:
من الرعي إلى الدفاع عن الأرض، ومن تنظيم الزواج إلى حل النزاعات. هذا النظام لا يعترف بالفرد إلا كجزء من كُلٍّ جَماعي، حيث تُصاغ الهوية عبر طقوس الانتقال من الطفولة إلى الرجولة، في احتفالية تُدشّن بالدم والألم والشعر، وهي التي تحدد مكانة الرجل وقدره وسط المجتمع، تبدأ الطقوس بعد إنقضاء مرحلة المراهقة بفترة قصيرة، خلال فترة يسمونها ال(أنيات) للشباب في طور مرحلة الإنتقال للجيل الجديد، و لا يكتمل التحول إلى “الرجولة” إلا بمرور الشباب عبر طقس “التشليخ” بحيث لا تكتمل الطقوس دون اختيار “أب الجيل” (ون ريج)، الذي لا يُشترط أن يكون زعيماً، لكنه يجب أن يحمل حكمة الأسلاف وقدرةً على قراءة الطبيعة. مهمته ليست قيادية فحسب، بل تأويلية:
فهو من يختار اسم الجيل مستلهماً الأحداث التاريخية أو الظواهر أو مرتبطة بالطبيعة مثل أسماء الحيوانات، أو تأخذ من إسم الثور “ميور” الذي يذبحه قرباناً لمباركة الجيل الجديد. الذي يصفه الكاتب الدكتور/ فرنسيس دينق بأنه “أكثر الطقوس إيلاماً في مجتمع الدينكا” بسرديته في كتابه (الدينكا في السودان):
” بعد إكتساب الفئة العمرية هويتها المتحدة، تتبعها مجموعة من المشاورات والنشاطات الإجتماعية(تنظم علي أسس بطون القبلية)، قبل البدء في إجراءات التدشين المباشرة قبل عام من الموعد المنتظر، لدراسة الظروف البيئية المحيطة من إنتشار الأوبئة، وضعف موسم الحصاد، والجفاف وعدم توافر الأسماك(والتي تعتبر ذو أهمية غذائية بالنسبة للمدشنين) نسبة لأنه لا يسمح لهم بشرب اللبن أو أكل أي من منتجاته وفقا للطقوس المتبعة، وبعد أن يتم إعطاء الإذن من قبل الزعيم للمضي قدماً، تدعو مجموعة الأنداد واحداً من الخبراء القليلين لإجراء عملية التشليخ، والذي غالبا ما يكون خبير من خارج القبيلة، وخاصة إذا كان عدد من بطون القبائل يقوم بالتدشين في نفس الوقت، في الليلة السابقة للتدشين، تُملأ الأجواء بقرع الطبول والرقصات الجامحة، بينما تُذبح الأبقار كقرابين، وتُقدمّ الجعة (“مو” التي تصنع من الذرة) بكميات تُناسب قدسية اللحظة.
عند الفجر، يقوم الذين ينتظرون التدشين، بخلع كل أشياء الزينة التي يرتدونها والتخلي عن أسلحتهم(الحراب)، إلا السياط وحزم قصب الذرة التي ترمز للحراب، لأن الدينكا ينظرون للسير بيدين خاليتين من كل سلاح بوصفه أمر غير طبيعي، ولكنهم في نفس الوقت لا يريدون تسليحهم، لأنهم قد يصعب التحكم فيهم بأسلحة خطيرة، ومن ثم يستلقي الشباب على الأرض، بحسب أسبقية الميلاد، والسلالة لكي يتلقو سبعة إلي عشرة شلخات عميقة، ومنتظمة في جباههم، وتُحفر تحت رؤوسهم حفرٌ لتجميع الدماء التي تسيل كـ”أمطار عاصفة” التي أحياناً تفيض بالدماء إلي خارجها، هنا، يتحول الجسد إلى لوحةٍ سردية:
“كل ندبة شاهدٌ على الشجاعة، وكل دمعة وقودٌ للذاكرة الجمعية. “
والمقطوعة هنا من أبيات قصيدة(بلهجة الدينكا )توصف هيبة مراسيم التدشين بوصف دقيق:
تتفجر الدماء من الوريد كالأمطار العاصفة،
فقد تمزق رأس الثور إرباً إرباً.
إحمرت الحفرة التي جهزوها تحت رأسي،
كالغابة ذات الأشجار الحمراء،
وغمرت دمائي الثقوب مثل مياه الربيع.
***
نياندينق ياإبنة كوور،
من فضلك أطردي الكلاب بعيداً،
فهي تلعق الدماء!
ففي صراعي مع ذكر البجع(الخبير)
أواجه الموت.!
ويقوم الرجال والنساء بالعدو والقفز في إستعراض راقص يسمي ( قوور)، ويحاول المدشنين أنفسهم أن يشاركو بترديد الأغاني الذي يتفاخرون فيها بشجاعتهم، ولكن لا يلبث أن يُغمي عليهم من أثر النزيف الشديد، ويهتاج الخبير ويتحول إلي شخص متوحش، يقوم أحيانا بتغطية وجهه بالدماء لألقاء المزيد من الروع في أنفس الناس، إن المشهد كله يذكر ببيت المجانين، وبالنسبة لشخص غريب فهو الجنون بعينه.”
ومن الأمثلة لأسماء الأجيال القديمة السابقة :
(” ميان” – بمعني؛ أسد ) لعشيرة مرينق.
(” فيريين”- بمعني؛ إسم ل ثور) لعشيرة أنيل.
(“نيانقاتير”- بمعني؛ التمساح) لعشيرة أبيور.
وبما أن للمرأة مكانة إجتماعية للدينكا، لا ينكر دورها البارز في نشأة وتكوين الأجيال، تعطي للإناث مجموعة أنداد مثيلة للمجموعات الرجالية إسم علي صلة بمثيلاتها الرجالية ولكن تكون مختلفة عنها مثال؛
(ريوب- لجيل؛ كوج) عشيرة مانيوار،
(أنوك- لجيل؛ جيش) عشيرة أبيور.
ان نظام تسمية الأجيال(التدشين) عند دينكا نقوك، يُعتمد في كل جيل على الأب الروحي الذي يتولي القيادة الروحية والعملية، مع تقسيم الجيل إلى طليعتين تُستكمل إحداهما بعد عشر سنوات، و يتم تجميع الأفراد الذين وُلدوا أو خضعوا للطقوس الابتدائية في فترة زمنية متقاربة ضمن طليعة واحدة، بعدها يتم تُحديد الواجبات الاجتماعية مثل تنظيم حفلات الزفاف، أو إدارة النزاعات، والتي غالبا ما تتمحور دور الطليعة الأولي بمرحلة التدريب علي الرعي، والقتال، والطليعة الثانية يتحملون مسؤوليات(الحربية) الدفاع عن القبيلة واتخاذ القرارات، و رغم قدسية النظام، فإن رياح التغيير بدأت تعصف ببعض تفاصيله. فالهجرة إلى المدن، وانتشار الوعي الصحي (خاصةً تجاه ممارسة التشليخ)، وتحوُّل أبيي إلى ساحة صراع سياسي، أجبرت القبيلة على إعادة تشكيل طقوسها. فبعد انقطاع عقود، أعيد تدشين الأجيال حديثاً، لكن بأساليب أقل دموية. فاليوم،
يُصارع الدينكا نقوك لتحقيق معادلةٍ أنثروبولوجية دقيقة:
كيف يحافظون على “جوهر” الطقوس كحامٍ للهوية، بينما يعدّلون “قشرتها” كي تتناسب مع عالمٍ لم يعد يُقدّس الدم كوسيلة للانتقال إلى الرجولة، ولغة سرية تُحكى بين الأجيال. بحيث تم تدشين الشباب حديثا بأسماء مثل؛
( “أشويل” _بمعني النسر الجارح)- لعشيرة ألي.
(“قول” _ بمعني الذئب) – لعشيرة أشاك.
(“شر ملو” _ بمعني غرير العسل ) لعشيرة مانيوار
وهذه الأسماء لا تحمل مجرد رمز، بل أصبح جزءاً من حكايةٍ أكبر: حكاية قبيلة تُمسك بتلابيب وجودها عبر دماء الأسلاف، وأغاني النساء، وصرخة الثور الذبيح.
هنا، حيث يصبح الجسد أرشيفاً، والاسم سلاحاً، والطقس درعاً ضدّ غول النسيان.

اترك تعليقاً