تحرر

·

·

للكاتبة: رهام حبيب اللّه

أختي تحولت إلى طائر. نبت لها جناحان وطارت عبر النافذة إلى حيثُ لا ندري. ربما تنقر الآن على زجاج شرفتك، أو ربما تكون الطائر الذي يخطط أطفال الجيران لاصطياده اليوم. لم أخبر أحداً من قبل؛ فلو علم أبي لقتلها ببندقيةِ صيده قبل أن ترتفع عن الأرض ذراعاً واحداً، ولن يتأخر إصبعه لحظة. ولأن أمي أكثر عطفاً؛ كانت ستقتلها – فهذا مايجب أن يحدث على أية حال- لكنها لن تتوقف عن البكاء عليها، حتى يحل يومٌ وتلحق بها هي أيضاً. بعضُ رجالِ قريتنا كانوا ليقتلوا رفيقات أختي تحسباً، وربما فُرض على جميع الأهالي بناءَ غرفِ الفتياتِ من دونِ نوافذ. لكنني لم أخبر أحداً حين بدأت التغييرات على جسد أختي، كما لم أخبرهم حين أختفت ذلك المساء ولم تخلِّف وراءها غير ريشاتٍ سقطت أسفل النافذة فسارعتُ بإهالة التراب عليها قبل أن يلحظها أحد.

نجت أختي من محاولات إجهاضٍ عديدة، منذ أن توصلت قابلة الحي -نتيجة إجرائها عدة مقارنات بين حمل أمي بي وحملها الجديد- إلى أنَّ المولود هذه المرة سيكون فتاة. غسلت أمي كل ملابس البيت ذلك المساء حتى النظيف منها، وجلبت الماء من النهر، وحين إمتلأت كل أواني المنزل جلبت الماء للجيران ولم تتوقف حتى تورمت قدماها من المشي، وفي اليوم التالي طحنت أعشاباً كريهة الرائحة وخلطتها بالحليب فمرضت جراء شربه ثلاثة أيام وسالت منها الدماء حتى قدميها، لكن القابلة قالت بأن أختي لاتزال قابعةً في الرحم. حين بدأ بطنُ أمي في الإنتفاخ توقَّفَتْ عن محاولاتها غير المجدية، وبدأت بالتجهيز لاستقبال المولود الجديد؛ فطرزَّت ثياباً بألوانٍ زاهيةٍ وأشترت سريراً صغيراً، أما أبي فسافر إلى المدينة وجاء بعد يومين حاملاً صندوقاً معدنياً خبأه في غرفته ولم يُخرجه بعد ذلك أبداً. يوم مولد أختي -وكان عمري حينها ثلاثة أعوام- أجتمعت نسوةُ الحيّ في بيتنا يحضّرن الطعام والشراب، ويطلقن ضحكاتٍ مرحة وهنَّ يستمعن إلى صراخ أمي يعلو من غرفةٍ أُغلقت عليها مع القابلة وثلاثة نسوة أخريات تجمعهن بنا صلة قربى، وحين سُمعت صرخة أختي للمرة الأولى – والأخيرة- عمد أبي إلى صندوقه السرّي وأخرج خيطاً رقيقاً ورديّ اللون ربطه حول قدمها اليسرى فأرتفعت زغاريد الفرح من النسوة وألتففن حول أمي مهنئات . حين كنت صغيراً لم أملك الكثير من الأصدقاء. جسدي النحيل أضافة الى مقتي للعنف جعلاني عُرضة للضرب الدائم والإستبعاد القسري من معظم ألعاب الصبيان، لكنني وجدتُ العزاءَ في مرافقة أختي الهادئة المسالمة رغم إعتراض والديَّ بإستمرار على ذلك. كنتُ أصنع لها ألعاباً من الطين أجففها بالشمسِ ليومٍ أو أثنين، ثم أحملها على ظهري ونذهب سوياً لإصطياد الفراشات أو أكل ثمار المانجو من المزارع المجاورة للقرية، فأُعاقَبُ بالضربِ إن علم أبي بحجةِ أنَّه من الممكن أن نضيع، على الرغم من أننا مهما أبتعدنا عن المنزل سيمتد الخيط الوردي عائداً من خلفنا متجاوزاً الحفر وبرك الأمطار ملتفاً مع إنحناءات الحوائط، مبتدئاً من عقدة غير مرئيةٍ على قدم أختي ومنتهياً بالصندوق في غرفة أبي. بعد سنوات لم أعد أقوى على حمل أختي على ظهري،كما لم تعد هي صديقتي الوحيدة حين نجحت خطط أبويَّ في تقديمي لصبيان الحي،كما أصبح لأختي رفيقات من سنِّها يقضين معها أغلب ساعات النهار في صنع دُمى من مواد عشوائية، أو تمثيل مشاهد يكنّ فيها أمهات أو نساء حديثات الزواج، ويعُدنْ إلى بيوتهِنَّ قبل حلول الليل الذي تنكمش فيه الخيوط لتصبح بطولِ خطواتٍ معدودة حول الأسرّه. أنا كان يُسمح لي بمصادقة كل الفتيان، أما أختي فتخضع رفيقاتها لإجراءاتٍ دورية صارمة من قِبل إمي، ولازلتُ أذكر إلى الآن ذلك اليوم الذي لاحَظَتْ فيه أمي إهتراءً في خيط واحدة من رفيقات أختي كانت الأكثر إلتصاقاً بها. لم تطردها من بيتنا، بل سارعت بالذهاب إلى منزل ذويها. غابت هناك ساعة ثم عادت، ومنذ ذلك النهار لم يرَ أحدٌ من أهل القرية تلك الصبيَّة، ولم تجرؤ أختي على السؤال عنها. على عكس كل فتيات قريتنا لم تحب أختي خيطها أبداً، رغم أنها لم تتحدث بذلك صراحةً أمام أحد، لكنني لاحظت أنها لاتتفاخر به، كما لم تعجبها أبداً أغنيات المدح التي تُنْظَم في الفتيات متينات الخيوط، وتلتمع عيناها ببريقٍ غامض حين نتحدث أمامها عن فضائل وميزات خيوط بنات قريتنا مقارنة بفتيات القرى الأخرى. كانت بطبعها قليلة الكلام، وكلما تقدم بها العمر إزدادت عزوفاً عن الناس؛ فهي تقضي جل أوقات اليوم وحيدة في غرفتها. وحدث ذات يوم أن دخلت عليها أمي الغرفة لتسألها عن أمر ما فوجدتها قد أحنت قدمها متأملة في الخيط. صحيحٌ أنها لم تحاول العبث به لكن ذلك كان كافياً ليجن جنون أبويّ. أبي الذي قام بضربها دون هوادة لم يتوقف حتى عندما تحوَّل غضب أمي إلى بكاء وأتهامات للشيطان بأنه المتسبب المباشر في ذلك، وحين شعر بالإنهاك ذهب إلى غرفته وأمرني أن أتبعه. جلستُ أمامه حذِراً، فحدثني لساعاتٍ عن أهمية الخيوط لمجتمعنا، وكيف أن المحافظة على سلامة خيط أختي يُعد مسؤوليتي الأولى، بل لا أستحق لقب رجل إن فرطتُ فيه، وأن أي حديث عنه ولو لم يصدقه أحد سيجلب العار إلى عائلتنا أجيالاً متلاحقة، حتى السماء تصب غضبها على الأقوام الذين لم يقدسوا خيوط بناتهم، وأنه وقع إختياره على أمي حين أقدم على الزواج فقط لأن خيطها كان قوياً ومتيناً كيوم وُلدت ولم يُصِبْهُ شيء حتى أستبدله هو بنفسه بسلسلة الزواج. أنا لم أعلِّق بشيء، لكنني في تلك الليلة – ولعدة ليالٍ تلَت – طاردتني كوابيس تنتهي دائماً بقتلي لأختي. بعد تلك الحادثةِ بأيام مرضت أختي، وحين تفحصتها أمي قالت بأنها أصيبت بعادةِ النساء التي تتكرر مرةً كلَ قمر؛ فأغتمّ أبي بذلك الخبر وقصُر الخيط كثيراً ليصبح طوله –حتى في أشد ساعات النهار توهجاً- لايتجاوز فناء البيت، وكثّف من حراستها وجولات تفقده المفاجئ لغرفتها، بل تطور الأمر لحد أنه منع عنها زيارات رفيقاتها القليلة المتفرقة. أما أمي فقد أعلنت مبتهجة أمامَ جمعٍ من أقاربنا أنه حان وقت تزويج أختي؛ فبدأت النسوة بالتوافد إلينا محملاتٍ بالهدايا، تبدأ أحداهنَّ بتفحّص الخيط فتمرر يدها للتأكد من خلوه من الثقوب وتشُدّه بقوة لتتبين إحتوائه على مناطق متهتكة، قبل أن تنهال عليها بعبارات الثناء والإعجاب وتختتم ذلك بطلب تزويج أختى لإبنها. من بين جميع الخُطَّاب وافق أبي على إبن عمدة قريتنا الذي يكبر أختي بعشرين عاماً لكنه يملك مزارعَ وأراضٍ شاسعة علاوة على أنه -كما أوضح أبي– لايملك أخوات ليراجع أحدٌ خيوطهنْ، وحدد نهاية موسم الحصاد موعداً لإتمام مراسم الزواج. طغت على المكان أجواء الفرح، وبدأت الإستعدادات للزواج الميمون، ووسط كل هذا لم تكن أختي تهتم وكأن لا شيء مما يحدث يعنيها. إزدادت عزلة وصمتاً، وحتى عندما أخذت أم العريس قياس ساقها وجلبت في اليوم التالي سلسلتها الجديدة، والتي كانت الأجمل والأكثر لمعاناً بين كل سلاسل نساء القرية، لم تنبس أختي ببنت شفه، بل تأملتها في صمت مستمعة لزغاريد الفرح من أمي . كلما أقترب موعد الزواج إزداد جسد أختي نحولاً. أمي التي تلقَّت اللوم على ذلك بدأت بصنع أطعمة مخصصة لزيادة الوزن، كما علَّقت التمائمَ على غرفة أختي، لكن كل ذلك لم يجدِ نفعاً. رغم أني بلغتُ السادسةَ عشر وصرت رجلاً -كما يؤكد أبي- لم أتقبل فراق أختي ورحيلها عنّا،كنت أشفق عليها كثيراً كلما لاحظتُ مسحةَ الحزن على محيّاها رغم أني لم أدرك أبداً سبب ذلك، وكنتُ أحيانَ ينشغل أبواي وتتفرق النسوة أدخل عليها لمؤانستها، وأعيد على مسامعها قصص الطفولة وأيام هروبنا إلى مزارع المانجو، وأحياناً أخبرها بتقدم تجهيزات عرسها المرتقب، ومايشاع من أخبار عن صفات زوجها، لكنها تلوذُ بالصمت. تلك الأيام بدأتُ ملاحظة أن نحافة جسدها ليست عادية؛ ففي البداية شعرت كأن أنفها قد تغير شكله، ثم نحفت ساقاها أكثر مما يجب، وطالت أصابع قدميها كثيراً، وبدا وكأنها تخفي وراءَ ملابسها التي تزداد تراكماً كل يوم بروزاً في عظام ظهرها، وأنتهى الأمر بأن توسَّعت مسامات جسدها كثيراً وأخرجت زغباً أبيضاً وخفيفاً، فراكمت أختي من ملابسها حتي فرحت أمي ظناً منها أن أطعمتها قد أجدت نفعاً. لا أعرف لماذا لم أخبر أحداً بالأمر، ولمَ فتحتُ النافذةَ على مصراعيها قبل زواج أختي بيوم، أو لماذا دفنت آثارها ثم قمت بخداع الجميع ورميت بعضاً من ملابسها أمام النهر القريب من القرية. شيء ما في داخلي دفعني لمساعدتها ولست نادماً على ذلك الآن. بعد أن ظن الجميع بأن أختي قد غرقت؛ أجتمع العمدة وأبنه وعدد من أعيان قريتنا بأبي، وطالبوه بإخفاء خيط أختي الذي وُجِد مرمياً في غرفتها حتي لايتساءل الناس كيف أستطاعت أختي قطعه ويتكرر الأمر بين الفتيات. أبي -الذي حمد الله أنه لايملك أبنةً أخرى- بكى لأول مرةٍ في حياته، حتى كدتُ أخبره بحقيقةِ الأمر، لولا يقيني بأن بكاءَه ليس حزناً على أختي. أما أنا، فكما تراني الآن، لم أتوقف منذ ذلك اليوم عن مراقبة الطيور، و رمي الطعام لها في الطرقات.


*النص الحائز على المركز الأول في جائزة الطيب صالح للقصة القصيرة

*الصورة ملتقطة من صفحة السودان زمان -انستغرام


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *