للكاتب: مصطفى خالد مصطفى
“عوى الذئبُ
فاستأنستُ للذئبِ إذ عوى
وصوَّتَ إنسانٌ فكدتُّ أطيرُ!”
-الأحيمر السّعدي-
بُم…بُبُبُم… يدهمكِ انفجارُ البراميل التي باضتها الطائرة، تفزع ميرا قبلك، ترتجُّ المغارة كأنما ستنفلقُ عن سرٍّ عظيم، يلعب الفأرُ في عبك، من هنا، ومن هنا تمامًا، يتضح أن نومكِ لم يكُن خفيفًا كما كنتِ تدّعين، لو أنه كان كذلك لاستيقظتِ منذ أن دخلت الطائرة حدودَ المنطقة، صوتُها (طارُ) شؤمٍ متفقٌ عليه، نذيرٌ للموت أكثرِ الأحداثِ ألفةً في هذه البراري المحمومة، الضرورةُ العبثية غير الموقوتة. يشقّ عليكِ تحمُّل الظلام والسخونة ويشقّ على ميرا أيضًا، تهتفين باسم يونس، ظل يشغل بالك مؤخَّرًا بسبب مرضه، طلبتِ من إسماعيل ألا يشدّ عليه في الطريق، لكنه يرى أن القسوة هي الأفضل للولدين هنا. تتذكرين، قال لكِ: أليسَ الخلاء خيرٌ من المعسكر؟ أجبتِه بانزعاج: لا، المعسكر خير، هناك مكان ننامُ فيه، قال لكِ: الخرطوم أفضل يا ذكيّة.. الخرطوم هادئة وكبيرة، لن يعرفنا أحد ولا حتى الشيطان، أجبتِه: الموتُ خيرٌ من الحياة في هذا المكان يا إسماعيل، لكنه قال: هذه المغارة خير من الموت في المعسكر يا عزيزة، كلها يومان أو ثلاثة، يصل إلينا أخوك من الخرطوم ونذهب معه، لو أنني أعرف الطريق لمشيتُ إليها مشيًا. هناك لا أحد يفكّر بأحد، لن نستيقظ على صوت الأنتنوف، سنذهب للحدائق والمتنزّهات، سيدخل أولادنا المدرسة، اصبري فقط. _ بُم.. بُم.. تنتشرفي الفضاء غلالة ضوءٍ تقهر حلكة الليل، تنتفخ عروقك، تقومين على طولك بجهد، ميرا تكبر بسرعة وتضايقك،تتشوّق للحياة ويجب أن تستقبلها في الخرطوم، هكذا أصرّ إسماعيل، تقررين ألا تعملي بوصيته، مخاطرةٌ كبيرة أن يذهب مع الولدين برفقة صديقيه للبحث عما يؤكل في هذا المكان وهذا الوقت، في مدخل المغارة تطرق أذنيكِ خشخشةُ قدمٍ على العشب اليابس، تظنينها إسماعيل مع الولدين، لكنّ إسماعيل يصفّق عند قدومه، تستعيذين بالله، تطوقين ميرا، تخافين أن يكونوا هم، تسمعين خَفْخَفةً ضاحكة، تنفرج أساريرك، ويبتعدُ ضبع الخلاء الأرقط غائبًا في الظلام. قال لكِ ذات ليلةٍ مُنسِمة وأنتم على سطح المغارة: _الخرطوم لا تشبهنا، الأفضل أن نسكن أمدرمان. سألتِه: ألن يسمع الأولاد صوت الأنتنوف؟ _ولا حتى في الأحلام. _و كيف سنعيش؟ _ عزيزة،المهم خروجنا من هنا…بأي ثمن. عددتِ له على أصابعك مصائر الأولاد: يونس دكتور، سعيد مهندس، وميرا أستاذة. قاطعكِ: لالا، سعيد مهندس، يونس تاجر، عقله عقل سوقٍ مثل أبيه. ووضع كفه على بطنكِ المكوّر وقال: وميرا دكتورة. باسَ رأسكِ، رقدتِ في حضنه مع الولدين،رغم هزاله احتواكم بصدرٍ دافئ، قال لكِ: رأيتُ حلمًا غريبًا، جنديٌّ يصوّب نحوي سلاحَه، لا يتردد في إطلاق النار عَلَي، تندفع رصاصته نحوي بسرعةٍ رهيبة، أستطيع متابعتها من فوهة السلاح إلى أن تصل إلى صدري، وهناك، تخيلي، تنفجر قرب صدري يا عزيزة وتخرج منها أبخرةٌ حمراء وصفراء وأشرطةٌ ملوّنة، أضحك أنا كالمجنون. قلتِ مازحةً بصوتٍ فاتر: كانوا يحتفون بإبادتنا بالتأكيد. اعترك يونس وسعيد بين حضنيكما، فاجأتكِ قبضةُ يونس الصغيرة وهي تفرد سبابتها ووسطاها، قال يونس لأخيه: بيو بيو… قتلتك، لا تتحرّك.صَفَعَتْهُ كفُّ إسماعيل بارتعاش. الدخان يعرجُ كأسطورةٍ مبتعثة، الظلام يخنق اللهب، أشجار التبلدي تتّقد وتتهاوى كنيازك راجمة، ثم… بُم،بُبُم،دُم، يتلوّن الأفق بلون النهار، ينطلق من الغابة شُعاعٌ باهرٌ يدحر قبضة الليل، بين الغبار والدخان وطقطقات التبلدي تطير الغزلان والأرانب نافقةً وترتطم بالأرض مشويَّة، تشدين ساقيكِ، تنتعلين الهلع، تنسين مواربة المغارة بكومة البارباريس الشائكة، تهرولُ قدماكِ باضطراب، حِجَابك يضغط رئتيك، تعتصر جدرانك ميرا، قلبك ينفلت عن ضرباته، تقتحمُ أنفكِ روائح عديدة، تتسع فتحتاه ثم تنكمشان بفزع، هلعك الوحيد أن يكون إسماعيل والولدان هنا، تقفين بين الرؤوس المتسلّخة تتبينين ملامحها، الرماد والرمل نسفا جميع الملامح، الأغصان التي جُمِعَتْ للطبخ تحولت إلى ذرِّ في الهواء، إسماعيل ينكفئ على ابنيه، عيناه تحدقان في فراغٍ هائلٍ أوله كاودا وآخره الخرطوم، تنزلقان إلى الداخل وتستقران في مكانٍ ما في تلك الجمجمة الصغيرة، سعيد يغمضُ عينيه بخشوع، يونس بين ذراعَي إسماعيل، تبدو جثثهم كأنها نُحتت من الصخر والدم وكلهم يميلون بأجسادهم نحو الأرض، تطبقين جفنيكِ بقوّة على أمل أن تفيقي من كوابيسَ سرياليّة، تفتحينهما على اتساعهما، تنقضُّ الحقيقة عليهما وتفترسُ إنسانيهما، تغمضينهما… تفتحينهما،ها أنتِ داخل سيارة الجيب مع أخيك، تشقَّان الرمل والصحارى وشجيرات الأثل والحنظل، لا تأبهين لجوعك أو لعطشك، تتكوّر داخلك بهدوءٍ سابحةً في ذلكَ السائل الدافئ، لا تتبادلين الحديث مع أخيك ولا يسألُك عن التفاصيل ولا يخبرك بحقيقة وجهتكم بعيدًا عن فردوس الخرطوم الكاذب، تطلبين منه أن يتوقف فيفعل، تنزلين من المقعد الأمامي بصعوبة، يسألك: ماذا تريدين؟ تفتحين باب المقاعد الخلفية، تستلقين بطولك، تقولين بصوتٍ مشروخ: النوم… أريد نومًا طويلًا. تنامين، تضجّ داخل رأسكِ عباراتٌ كثيرة يتردد صداها في جرابك اللحمي اللذي يطوّق ميرا: الخرطوم كبيرةٌ جدًا يا إسماعيل وأنا أخافها. كل شيء سيكون تمامًا يا عزيزة، و لا تنسَي، أنا لم أمُت بعد. سعيد مهندس .. ميرا دكتورة..يونس تاجر..لالا.. لن نسكن الخرطوم..المعسكر يا إسماعيل..أمدرمان يا عزيزة..لا أريد سوى النوم..سنسكن مع أخيك..ولا حتى في الأحلام.. سنذهب للحدائق..يونس تاجر… مهندس… يونـ.. بُم بُبُم دُم. ويعيد شريط ذاكرتك ذات العبارات على طول الطريق، مدى الحياة.
مصطفى خالد مصطفى أمدرمان، ٢٠١٩م.
اترك تعليقاً