بين يدي دانتي – In the Hand of Dante 2025

·

·

, ,

طوال حياتي، طاردتُ ظلال الحبر، كل كلمة كانت وعدًا بالخلاص.

نيك توشيز

في فيلم “في قبضة دانتي” يقتبس المُخرج شنابل رواية صدرت عام 2002 لنيك توشيز، الكاتب الراحل المنتمي للثقافة المضادة والذي اشتهر في الغالب بأعماله الواقعية. إن قرار اقتباس هذا الكتاب تحديداً يكاد يكون مؤشر خطر، نظراً لأن الرواية نفسها كانت فوضى عارمة. ولكن لفترة لا بأس بها، ينجح شنابل في تبسيطها وتحويلها إلى ملحمة مسلية عن العالم السفلي، حيث تلتقي الجريمة العنيفة بالشغف الشعري لذلك يعتبر فيلم (في يد دانتي) حماقة تنبض بالحياة. حتى عندما تفتقر عناصره إلى التماسك، فإنه من ذلك النوع من المغامرات المحلّقة التي يصعب التخلص من أثرها.

يتألف الفيلم من سرديتين متوازيتين تتمحوران حول إرث “الكوميديا الإلهية” لدانتي أليغييري. الأولى تدور أحداثها في أواخر العصور الوسطى، وتتمحور حول دانتي نفسه وهو يخط رائعته، بينما تدور الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتتبع نسخة متخيلة من توشيز وهو يُستدعى للتحقق من أصالة نسخة يُفترض أنها مخطوطة بخط اليد من الكتاب. تقدم المنظورات المتضاربة رؤى حول العملية الإبداعية، وصناعة النشر، وفعل التعبير الفني، والقيود التي يمكن أن تثقل كاهل أولئك الذين يشعرون بمجرد رغبة عارمة في الإبداع.

لطالما كان “فعل الخلق” تيمة متكررة في السينما، ويمكن أن يتراوح تناولها بين كونه ثاقبًا بحق أو منغمسًا في الذات بصراحة، اعتمادًا على منظور الشخص الذي يروي القصة ونواياه العامة. أظهر شنابل افتتانًا بقصص الفنانين؛ فمن أعظم إنجازاته فيلما “باسكيات” و”عند بوابة الخلود”، وهما سردان سيريّان تجريبيان إلى حد ما، ولكنهما مؤثران بعمق لحياة فنانَين تشكيليَّين بارزَين. وهنا، يوجه أنظاره نحو الكلمة المكتوبة، متفحصًا فصولًا قليلة من حياة دانتي وجهوده لكتابة ما سيُعتبر لاحقًا واحدًا من أروع أعمال الأدب. ويأتي هذا في مقابل قصة كاتب يجد نفسه يكافح بطريقته الخاصة؛ إذ يمكن أن يكون مبدعًا بلا حدود، لكنه يعاني تحت وطأة صناعة نشر أحادية البعد وصارمة، لا تقدّر الفن بقدر ما تمنح الأولوية للأداء التجاري. إن التلميحات التي يطرحها كل من شنابل وتوشيز (الذي أقحم نفسه في الملحمة بصفته بطل الرواية في كلا الخطين السرديين، حيث نصف السرد هو ملاحظاته في الوقت الحاضر، والنصف الآخر مُصفى من خلال ما تخيله عن تجربة دانتي) ليست غامضة بالتأكيد، فالنص وهذه المعالجة مبنيان حول فحص العملية الإبداعية كمتاهة مليئة بالتحديات، لا يستطيع حتى أذكى الفنانين وأكثرهم حيلة اجتيازها دون صعوبة.

إن سيف الأعالي لا يضرب على عجل، لا ولا متأخراً، من دون امتثال من انتظره راغباً أو مختشياً.

لسوء الحظ، تتبدد إمكانات “في يد دانتي” على الفور تقريبًا عندما نكتشف أن الفيلم المحيط بها ليس بالعمق الذي كنا نأمله. في الواقع، يبدو أنه يعمل ضد نفسه في كثير من الأحيان، حيث إن كل ذرة من الأمل التي حملها في البداية قد تشوهت بسبب نهج المخرج الغريب في بث الحياة في القصة. لم يكن شنابل يومًا من الملتزمين بقواعد أي وسيط فني، وميله إلى “التغريد خارج السرب” قد أكسبه من المريدين بقدر ما أكسبه من المنتقدين. وغني عن القول إن هذا الفيلم يمنح المنتقدين مصداقية أكبر، فنحن أمام فيلم مثقل بطموح مفرط يفتقر إلى الحس العملي. أصبح مصطلح “الأسلوب على حساب المضمون” مبتذلًا لكثرة استخدامه، وهو طريقة سطحية للنظر إلى الفن، ولكن في حالات كهذه، فإنه ينطبق تمامًا. “في يد دانتي” لا يتمحور حول الأفكار بقدر ما يتمحور حول الاستعراض، والمدى الذي يذهب إليه المخرج لعرض نهجه “التخريبي” المزعوم لفحص فعل الخلق، والذي يتضح في الواقع أنه أحادي البعد ومبتذل. بعض الصور البصرية اللافتة (بما في ذلك تصوير نصف الفيلم بالأبيض والأسود المذهل) ليست كافية لصرف انتباهنا عن الطبيعة المشتتة للقصة، التي تقدم عدة تيمات ولكنها لا تبدي استعدادًا لمتابعة أي منها، لتصبح ضيقة جدًا في منظورها رغم سنوات الخبرة التي بُذلت في بناء هذا الفيلم.

يلعب أوسكار آيزك، بشعره الطويل غير المهندم وعدائيته الماكرة، دور نيك توشيس  وهو صحفي يعد أسطورة من أساطير “الهيبسترز” الخارجين عن القانون. نلتقي به وهو جالس في حانة، يتحدث بفصاحة عن هوسه بـ “الكوميديا الإلهية” لدانتي، ولكن أيضاً عن كونه كاتباً يفضل التعذيب على الخضوع لعملية التحرير. يمكنك أن تلمس بالفعل تلك التيارات الخفية المعادية للمجتمع، الممزوجة بالغيرة على النقاء، والتي تصنع بطلاً من أبطال شنابل. يُظهرنا مشهد “فلاش باك” لشباب نيك في نيوجيرسي وهو طفل يقتل متنمرًا بسكين المتنمر نفسه. ثم يعود إلى المنزل ويعترف بالجريمة لعمه (الذي يؤدي دوره آل باتشينو في دور رجل عصابات ذي نخوة وصوت أجش)، فيخبره بأنه لم يرتكب أي خطأ، وأنه لا يحتاج إلى الاعتراف، لأن الله موجود في كل مكان ويسمعه بالفعل. على الجمهور أن يتمسك بهذه الفكرة، لأنها تصبح جزءاً من المزيج الفكري العميق للفيلم.

جو مُولع بالفن إلى حد ما، مع لوحة بورتريه ذاتي لرامبرانت على الحائط خلفه (يصفها لوي بـ “القبيحة”)، وقد استدعى لوي ليخبره عن صفقة ضخمة لا يمكن تصورها. يريد منه الذهاب إلى إيطاليا لسرقة أثمن كنز أدبي تم العثور عليه على الإطلاق: المخطوطة الأصلية لـ “الكوميديا الإلهية” المكتوبة بخط يد دانتي.

يعثر على جزء ممزق قد يكون الأنشودة الرابعة المفقودة للشاعر. مع تسرب الخبر، يبدأ هواة جمع المقتنيات السريون وتجار السوق السوداء بالتحليق كالنسور. لحماية المخطوطة—والمرأة التي يحبها، “جوان”—يجب على “جيمس” الهروب من الأرشيفات المغبرة، ومواجهة المزادات السرية، ومجابهة شياطينه الخاصة. تتسرب رؤى من العصور الوسطى إلى حياته اليقظة، مما يجبره على اتخاذ قرار نهائي واحد: إنقاذ المخطوطة—أم إنقاذ نفسه وحبه؟

النصف الأول من “في قبضة دانتي” ، المصور بالأبيض والأسود الحريري، هو نصف شاذ وعنيف وجذاب بما يكفي ليجعلك تتمنى لو أن جوليان شنابل اكتفى بصنع فيلم عصابات واقعي جديد؛ لكان بارعاً في ذلك. يحوّل بتلر ومالكوفيتش التنمر إلى فن مسرحي مبالغ فيه، بينما يجذب آيزك تعاطفنا بدور نيك المتهور، الذي لا يزال متحضراً نسبياً، والعالق في خضم كل هذا. المشهد الذي يذهب فيه نيك ولوي إلى منزل فخم في باليرمو لسرقة المخطوطة يتمتع بتشويق مذهل (لم تشهد من قبل قتل المدنيين الأبرياء كفكرة لاحقة لا ترحم حتى ترى جيرارد بتلر يفعل ذلك). وبمجرد عودتهما، تتحول عملية التوثيق — نيك ينتحل شخصية مؤرخ ليتمكن من الجلوس في المكتبات الإيطالية القديمة وسرقة أوراق تعود إلى زمن دانتي؛ والتأريخ الكربوني والأساليب الدقيقة الأخرى — بفيلم “في قبضة دانتي”، لبعض الوقت، إلى قصة بوليسية آسرة.

ولكن لفترة وجيزة فقط. كان شنابل قد قدّم بالفعل مناورته الأكثر زخرفة: مشاهد “فلاش باك” لدانتي أليغييري، الذي يلعبه آيزك ببراعة شكسبيرية كئيبة. نرى انغماس دانتي في السياسة المحلية ولمحته الأولى، في شبابه، لبياتريس، الفتاة البالغة من العمر 13 عاماً التي سيقع في حبها، ولم يتحدث إليها قط، وكتب “الكوميديا الإلهية” بأكملها تكريماً لها. مشاهد العودة إلى زمن دانتي لا تزيد من حدة الدراما بالضبط، ولا تدّعي ذلك. في جوهرها، هي تأملات في معنى الحب والإله. ومع ذلك، نحن نجاريهم (نوعاً ما)، لبعض الوقت، خاصة عندما يظهر مارتن سكورسيزي تحت لحية بيضاء ضخمة بدور إشعياء، مرشد دانتي الحكيم، الذي يوجّه دانتي، بصوت يتمتع بمسحة دينية رقيقة، إلى المعنى الباطني للحياة.

مشكلة دانتي أنه تزوج جيما لكنه كان خاضعاً روحياً لبياتريس لدرجة أنه ظل خارج زواجه وحياته. كان عليه أن يتعلم خطأه، وهو ما يفعله عندما يقوم نيك ، والذي يعد أيضاً على مستوى ما تناسخاً لدانتي (هل فهمت الفكرة؟)، بإعادة تمثيل زواج دانتي بالدخول في علاقة مع جولييتا ، مساعدته الإيطالية الجديدة في العمل، التي عادت إلى إيطاليا لمساعدته في بحث المخطوطة — ولكن في الحقيقة لتكون معه. هل أُصبنا بجرعة زائدة من السرد حتى الآن؟

تحت الثرثرة المتعالية وآليات الحبكة المتطابقة كصورة مرآة، فإن “في قبضة دانتي” هو فيلم يدعوك للاستيقاظ واحتضان العالم من حولك. لا بأس في ذلك، لكن يمكنك أن تشعر بأن شيئاً ما قد انطفأ في الفيلم – وكأن أساسه قد انهار – عندما يختفي لوي وجو. نُترك الآن مع بحث نيك، وحياته العاطفية المجردة والأثيرية بشكل مفرط، وحكاية باحثة إيطالية (سابرينا إمباتشياتوري) تبجّل دانتي ويصادف أن لديها صديقاً من رجال العصابات (يلعبه جيسون موموا!) الذي سيلحق بنيك ويخلع أظافره. فقط انتظر لترى ما يحدث عندما تبدأ هذه الشخصيات في إطلاق النار على بعضها البعض..

يريد فيلم “في قبضة دانتي” أن يتجاوز مخدر السرد القصصي المجرد. إنه يريدك أن تنتشي بالحب والعذاب والفداء. الذي يقوله الفيلم إن القدير في كل مكان حولنا ويستطيع رؤية كل شيء بالفعل، لذا فإن سر الحياة هو احتضان الإله الموجود في كل لحظة.

لكن هذه جرعة مفرطة من فلسفة الحياة التي لم تُدمج بشكل ناضج في قصة الفيلم. وجوليان شنابل — المخرج مثل أفلامه السابقة “قبل حلول الظلام”، و”قناع الغوص والفراشة”، و”على بوابة الخلود” — مخرج موهوب جداً لدرجة لا تسمح له بتقديم هذه “الكعكة متعددة الطبقات” غير المتوازنة كتجربة مكتملة للجمهور. ومع ذلك، هناك طرق أقل إثارة وحيوية لمشاهدة فيلم جيد يخرج عن مساره من أن تضع نفسك “في قبضة شنابل”.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *