(بيدرو بارامو) – حيثُ يُمكِنُك سَماع صوتُ المُوتى.!

 “بيدرو بارامو: النصّ المنسي الذي وُلِدت مِنه الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية
ترجمة : صالح علماني

“بيدرو بارامو”.. روايةٌ قصيرةٌ مكسيكيةٌ ألهمَت عمالقةَ الواقعية السِحرية وظلَّت في ظلّهم، وفي دوائر -العالم الناطق بالإنجليزية- مجرّدَ مُقدّمةٍ لروائعِ الستينيات مثل “مئة عام من العزلة”. حتى التراجم اللاحقة لم تخلُّ من هذه النظرةِ المُختزِلة.

أقل من ١٢٠ صفحة، ينسجُ “خوان رولفو” سردًا ساحرًا يذوبُ فيه الواقعُ بالخيال. المشاهدُ تتطايرُ كأوراقِ شجرٍ في إعصار، لكنها تتركُ وراءها وَشمًا لا يُمحى:

ظلت الرواية في بوابة “المُقارنة بأعمال أُخرى”، يُصرّ النقادُ على تشبيهها بأعمالٍ أخرى: غلاف الطبعة البريطانية الجديدة يصفها بـ”مرتفعات وذرينغ” مكسيكيةٍ كتبها كافكا!
حتى خوان رولفو – مؤلف الرواية – موظف الإرشيف، تحول هذا العمل أمامه كنقمة – بالرغم إنها نِعمة الواقعية السحرية التي منحها هو للعالم.

مدينة حتى الأشباح تفِر مِنها لِتَستردَّ أغطيتَها المفقودة .!

تدور الأحداث بين سبعينيات القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن العشرين – حقبةٌ شهدت ديكتاتورية “بورفيريو دياز”، الثورة المكسيكية، وانتفاضة “الكريستيروس”.
مدينةِ أشباحٍ كلُّ سكانها أمواتٌ أو هاربون من عنفِ الإقطاعيِّ “بارامو” . تتحدثُ الأطيافُ عبر الأثير، أو من توابيتِها تحتَ الأرض، بينما يذوبُ الزمنُ وتختلطُ الحدودُ بين الحياةِ والموت، الجنونِ والعقل.

يذهب بطلُ الرواية “خوان بريسيادو”، إلى بلدة “كومالا” لتنفيذ وصية أمه المُحتضِرة: مواجهة والده “بيدرو بارامو”:


“لا تطلب منه شيئًا. فقط ما هو لنا.. ما كان ينبغي أن يعطيه لي لكنه لم يفعل. اجعله يدفع الثمن، يا بني، لكل تلك السنوات التي محانا فيها من ذاكرته”.

والده الإقطاعي لم يَكُن رجلاً يُستدرجُ بسهولة. حتى الموتُ لم يُخلّص البلدةَ من شراسته. يصلُ إلى كومالا ليجدَها أطلالاً — لاسترداد دَين. لكن البلدةَ المهجورة — التي دمّرها بارامو والحروب الأهلية — لم تكُن سوى جحيمٍ أرضي:

“بعد أن نزلنا من التلال، واصلنا الهبوطَ إلى حرارةٍ خانقةٍ بلا هواء.. كل شيءٍ هنا يبدو في انتظارِ شيءٍ ما”.

كومالا اسمها يعني “المِقلاة” (نسبةً لِصفيحة خبز التورتيلا) تحترقُ على جمرِ الأرضِ وفوقَ فمِ الجحيم – “البلدةُ مليئةٌ بالأصواتِ المحبوسة، كأنها حُبست خلف الجدران أو تحت الحصى. حين تمشي، تشعرُ أن أحدًا يخطو خلفك في آثار قدميك” – هسيس الموتى. حتى الزمنُ يتداخلُ كشظايا مرآةٍ مكسورة: الماضي يلتحمُ بالحاضر، الأمواتُ يتنفسون بجوار الأحياء. عبر سردٍ متقطعٍ، “الجثثُ التي قضت منذ زمنٍ تبدأ بالتحرك عندما يصلها الرطوبة.. تستيقظ”.

حتى بيدرو بارامو وهو يعني “الصخرة” و”السَّهل الجرداء”، إقطاعيٌّ قاسٍ ارتبطت حياتُه بالموت: حتى في مماته، ظلَّ بارامو شبحًا يُسيطر على كومالا. الرواية — المكتوبة بانقطاعاتٍ زمنيةٍ وبتعدديةٍ سرديةٍ — تُجسّدُ تراجيديا يونانيةً مكسيكية: البحث عن الأب، اغتصاب الأرض، والعنفُ الذي يلدُ عنفًا.


رغم هيمنة الأشباح النسائية على كومالا، إلا أن النساءَ في عالم رولفو — سواءً في الحياة أو الموت — لسن سوى ضحايا ليس لهن مخرج، أدواتٍ لقمعٍ ذكوريٍّ لا يرحم . رولفو — ربما — يُدين النظامَ الإقطاعي البطريركي، لكنّهُ يتركُ نساءَه بلا أمل.


رغم محاولاتِ اختزاله، ظلَّ “بيدرو بارامو” أبًا روحيًا لأعمالٍ عظيمة ورجل يلقي بظلاله على الكُتاب الأخرين:
  • كارلوس فوينتيس في “موت أرتميو كروز” (1962) ينسخُ شخصية الإقطاعي الذي يزوّج للأرض.
  • غارسيا ماركيز يستعيرُ من رولفو الجملةَ الافتتاحيةَ الأسطورية، وأسماء شخصياتٍ مثل “ميلكوياديس”، بل ويبني “ماكوندو” على أنقاض “كومالا”.

“بيدرو بارامو” ليست مُقدّمةً أو تحلية في مائدة الواقعية السحرية، بل هي الوليمةُ نفسُها. نصٌّ يغوصُ في دهاليزِ التاريخِ المكسيكي عبر لغةٍ شاعريةٍ تذوبُ فيها الحدودُ بين الواقعِ والأسطورة، الأحياءِ والأموات. ربما كان غارسيا ماركيز محقًا حين قال:

“لو كنتُ كتبتُ “مئة عام من العزلة” قبلَ قراءة رولفو، لكانتْ روايةٌ مختلفةٌ تمامًا”.

تثبتُ أن الأدبَ العظيمَ لا يُحكى، بل يُعاش. وكما قال خوان بريسيادو:

“كومالا مكانٌ فوقَ الأرضِ لكن تحتَ السماء.. أو ربما تحتها كلتيهما”.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *