الميثولوجيا الأثيوبية
بحسب قصة إثيوبية معروفة، كان لآدم وحواء ثلاثون طفلاً، ولحماية أجملهم من الحسد الإلهي، حاولت حواء إخفاء خمسة عشر منهم في جنة عدن بعيدًا عن أعين الرب. غضب الرب الذي يرى كل شيء من حواء وأعلن أن هؤلاء الأطفال سيبقون غير مرئيين إلى الأبد. أصبح الأطفال الخمسة عشر غير المرئيين أسلافًا للأرواح الحاقدة وغير المتوقعة مثل الزار، بينما أصبح الخمسة عشر الآخرون أسلافًا للبشرية.
وفقًا لبودي (1989)، من المحتمل أن مصطلح “زار” نشأ من الكلمة العربية “زَهَرَ”، بمعنى “أصبح مرئيًا أو محسوسًا أو متجليًا”. هذا التفسير ينطبق على سياق التلبس، حيث تصبح الأرواح مرئية بدخولها إلى عالم البشر عبر أجسادهم.
الريح الأحمر في السودان
قديماً ظهر الزار إلا أن تمدده كان إبان الفترة السنارية، ولا تاريخ محدد لدخوله السودان. لكن بعد العهد التركي أخذ الأمر في الانتشار لتميز ذلك العهد بعدم التقيد بالآداب والسلوك، إذ كان الحكام الأتراك يأتون المصريات والحبشيات من أجل إقامة بعض الأشياء المنافية، ما جعل السودانيين يخافون على بناتهم وزوجاتهم فأحكموا عليهنّ الوثاق وحرصوا على عدم إرسالهنّ إلى الأسواق، فأدى إلى ظهور نظام جديد يعرف بـ (الدلالية)، وهي امرأة كبيرة في السن تقوم بالتبضع بدلا عن نساء المنطقة وتجمعهنّ لاختيار ما يناسبهنّ من بضاعتها.
و كتفسير مجترح، كان انتشار الزار بصورة كبيرة داخل المجتمع السوداني، لإزاحة الملل والضغط الواقع على المرأة سواء من زوج لئيم أو والد متسلط أو مجتمع ظالم، جراء القهر والكبت الذي يمارس عليهنّ الأمر الذي دعاهنّ لإقامة حفلات نسائية سرية، وخاصة جداً للتنفيس عن الصراعات الداخلية التي تواجهها، كما نعرف إدارجه في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-IV-TR)، يُعالج الزار كمتلازمة مرتبطة بالثقافة.
مقاومة الذكورية
عندما تجلس المرأة المسؤولة عن الزار بـ (شيخة الزار) أو (الأسطى) ومهمتها التجهيز للزار، ومن ثم تعلن عن بداية الجلسة، ولهذه الشيخة فقط الحق في إنهاء جلسة الزار المنعقدة، وللزار زي رسمي يختلف حسب نوعه، فمثلاً ترتدي السيدة التي يتلبسها الخواجة طربوشاً على رأسها، وهناك أيضاً من يرتدينّ الجلابيب الرجالية، لكنهنّ اتفقنّ جميعاً على اللون الأحمر الذي يعد لونه الأساسي، وتتميز هذه الجلسات بحضور رجالي باهت، فالرجال لا علاقة لهم بحفلات الزار إلا قليلا عبر الآلات الإيقاعية لحفلة الزار.
حتى الحفلات ذاتها تحمل رسائل مبطنة، مثل احضار خروف ذكر وتخضيبه وذبحه لإنهاء الهيمنة الذكورية القابعة في اللاوعي الجمعي النسوي. وتتميز هذه الجلسات بحضور رجالي باهت، فالرجال لا علاقة لهم بحفلات الزار إلا قليلا عبر الآلات الإيقاعية لحفلة الزار.
أما التفسير الأخر فيتجه ناحية ان أن الزار أو الريح الأحمر ما هو إلا مس شيطاني وما يميزها ان جان الريح الأحمر عاشق للجسد ومن الصعوبة بمكان أن يخرج منه، فله قدرة فائقة على احتمال العذاب، لذلك فعلاج الريح يحتاج إلى صبر وجهد لأنهم في الأساس جماعة تتنزل على المريض وتسيطر عليه وتتحكم في تصرفاته وسلوكه.
والريح الأحمر ينقسم إلى قرابة مئة قبيلة كل واحدة من هذه القبائل تفرض سلوكها على المريض وتتطبع بطباع الشخصية تحزن لحزنها وتفرح لفرحها وتنتقم لها في بعض الأحيان فمريض الزار أشبه بالطفل الصغير تسترضيه بأبسط الأشياء وتبكيه لأتفهها شخصيته حساسة للغاية وقد يفسر الكلام في غير موضعه.
خيوط الحبشة
و أشهر قبائل الزار هي خيوط الأحباش الذين برزوا بمسميات عديدة وللأحباش طقسهم الذي يميزهم ومن أشهرهم (ملليك) وهو سلطان الحبش، وعندما يتنزل على المريضة تشعر أنها ذات مهابة وتقوم بدورها بفرض شخصيتها على الآخرين والمرأة التي يتلبسها ملليك تكون نهمة في جمع المجوهرات الثمينة وطلباتها دائماً تنحصر في الذهب ومن الخيوط التي تجر لكيما يتنزل مليلك.
بشير لومي الفتى الأرستقراطي
ويلي “مليلك” رفعة في عالم الزار وفي قبيلة الأحباش على وجه الخصوص (بشير لومي) والمرأة التي يتلبسها ترتدي دائماً الطربوش الأحمر، وكذلك الجلابية الحمراء، ولبشير لومي يوم من أيام الأسبوع يحضر فيه وتعد في ذلك اليوم صفرة مكونة من عدة أصناف منها الحمام المشوي والجبنة المضفرة والزيتون والساردين والبيض المسلوق بجانب الفاكهة والبيبسي والقهوة، ويكون ذلك إما يوم الأربعاء أو الأحد والخيط المحبب لبشير لومي والذي يجعله يذوب من الطرب.ويُنظر إليه على أنه روح مسلمة، وغالبًا ما يُصوَّر على أنه أرستقراطي وأنيق ووسيم، يحب العطور والبخور والملابس النظيفة.
“بشير يا لومي… يا لابس القميص نومي”
وهي إشارة إلى ارتداء القميص الحريري الناعم (“قميص نومي” في اللهجة السودانية).
بإعتباره روحًا “حبشية” كلمة “لومي” يعني “الليمون” باللغة الأمهرية (ሎሚ)، مما يضيف إلى هويته الإثيوبية. ارتباطه بالليمون قد يرمز إلى النقاء أو الانتعاش.
على عكس بعض أرواح الزار المخيفة أو العنيفة، يُعرف بشير بأنه روح مسالمة ولطيفة. هو ليس من الأرواح التي تسبب أمراضًا خطيرة، بل غالبًا ما يتلبس الشخص ليطلب الاهتمام والتدليل والأشياء الجميلة.
وا لومي أنا وا لومي
وا لومي يا بشير لومي
بشير غدار يا بشير لومي
دا الشرابو سجار يا بشير لومي
ولبشير لومي أربع بنات كل لها عالمها وتفاصيلها أشهرهن اللولية أو لولة أو لولي كلها مسميات لشخصية واحدة ولولة في عالم الريح لها مكانة خاصة ووضعيتها الاعتبارية فبحسب روايات شيخات الزار أنها (ما ساهلة وبتجيب حقها) بمعنى أن المرأة التي تتلبسها هذه اللولية أمورها دائماً (سالكة) لأن اللولية (بتحب الجيه).
أما شقيقات اللولية من بنات بشير :كوفتي وماري وقميرية وهن قريبات من طقس اللولية مع اختلاف طفيف في بعض السلوكيات. هذه تفاصيل عن قبيلة الأحباش في عالم الريح الأحمر ويبقى البخور المحبب لهم خليط من الجاولي والعدني والعودية والمر الحجازي يخلط بقليل من بت السودان والمحلبية ليعطي رائحة نافذة تجيب اللبشة ومن الشخصيات الشهيرة أيضاً في قبيلة الأحباش ولد نورة ويوسي.
وبشير لومي هذا يتشكل دوره كثيرا .. فمرة نجده “ضابطا” بدبابير .. واخري “طبيبا” يحمل سماعة .. ومرة يتعاطي “السجائر” واخري يقارع “الخمر” ورغم ذلك فطلباته أوآمر واجبة التنفيذ.
ويغني له:
وبشير لومي يا بشير لومي
بشير لومي يا بحر عومي

في السودان (المنطقة الجغرافية) التي مزجت بين نوعين من الفنون الروحانية ففي السودان، يتدفق تيارا الزار (القادم من إثيوبيا) والـ”بوري” (من غرب أفريقيا) معًا، ليشكلا طقسًا هجينًا يُعرف بـ”زار-بوري” قد يكون “بشير لومي” ليس شخصًا في الواقع، بل اسم لأغنية شعبية لها دور في الطقوس النسائية السودانية.
التحليل الإجتماعي / الثقافي
كانت طلبات بشير لومي محصورة في الطربوش والجلابية الحمراء واختار يوم الأحد موعداً لنزوله تجهز فيه السفرة التي تحتوي على الزيتون والجبنة والحمام المشوي وبعض المياه الغازية والبيض المسلوق، هذا فضلاً عن قعدة الجبنة بكل مستلزماتها من فشار ومكسرات وحلويات. وقد يمثل بشير لومي النزوع ناحية الرغبة في الحداثة والسلع الاستهلاكية العالمية، أي أنه الرغبة المكبوتة في الحصول على سلع استهلاكية وكماليات قد لا تتمكن من طلبها مباشرة، أي أن نشأة بشير لومي في المخيال الشعبي حديث نسبياً ويرتبط بتغلغل العولمة والثقافة الاستهلاكية في المجتمعات المحلية.
كما يرى آي. إم. لويس أن طقوس الزار هي “طقوس للمضطهدين” أو “استراتيجيات غير مباشرة للعدوان والتفاوض” تستخدمها الفئات المهمشة في المجتمع، وخصوصًا النساء، اللاتي يفتقرن إلى السلطة المباشرة.
التحليل النفسي
وبحسب التحليل الفرويدي، يوفر طقس الزار مساحة آمنة ومقبولة اجتماعيًا يتم فيها تعليق سلطة “الأنا الأعلى” مؤقتًا. عندما “يحضر” بشير لومي، يُسمح للرغبات المكبوتة (الهو) بالظهور والتعبير عن نفسها بحرية كاملة، دون أن تشعر المرأة بالذنب أو اللوم، لأن “الروح هي التي تطلب” وليس هي. فيصبح الزار كشكل من “تحقيق الأمنيات Wish-Fulfillment للمرأة التي قد تشعر بالتهميش أو الحرمان في حياتها اليومية، تحقق أمنيتها اللاواعية بأن تكون محط اهتمام الجميع، وبأن تكون ذات مكانة وقوة، وبأن تُلبى طلباتها دون نقاش. وبحسب يونغ يمكن أن نعتبر شخصية “بشير لومي” الأرستقراطية هي ليست شخصية خارجية، بل هو قناع نفسي، أو “شخصية بديلة” (Alter-ego)، تمثل الجانب المكبوت من نفس المريض. إنه بناء نفسي معقد يسمح للفرد بإدارة صراعاته الداخلية والتعبير عن رغباته المحظورة بطريقة درامية ومقبولة ضمن إطار ثقافته، مما يحقق له في النهاية نوعًا من التوازن النفسي المؤقت.
اترك تعليقاً