بائعة شاي – تُصلب أكثر من مرة

في الحرب، تتشظى المعاني وتتحلل الحدود الفاصلة بين الأخلاقي والسياسي، بين البقاء والخيانة، بين الضرورة والتواطؤ. وتنشأ مساحات رمادية لا تتسع لها اللغة الرسمية للعدالة أو الأخلاق. في هذه المساحة الورطة، عاشت وقتلت مريم — بائعة الشاي التي وجدت نفسها في قلب الإعصار، بحكم كونها هناك، على قارعة الحياة، تحاول أن تطعم أطفالها.

قصة مريم تمثيل مكثّف لمعنى المعضلة الاجتماعية في أكثر تجلياتها وحشية وتعقيدًا. كتموضع فلسفي للفرد الضعيف أمام سلطات متنازعة، وجماعات تستبطن أحكامًا نهائية لا تحتمل التأويل.

بائعة الشاي كاستعارة وجودية

في الثقافة السودانية، بائعة الشاي مؤسسة اجتماعية صغيرة، تؤسس مكانًا للقاء، للعبور، للانتظار، للحكاية. لكنها أيضًا تعبير مكثف عن الاقتصاد الهش والوجود المعتمد على اللامرئي؛ نساء خارج شبكات السلطة، يحرسن الحدّ الفاصل بين العوز والكفاف.

وهكذا مريم، كانت موجودة في الهامش الذي يُعتبر عادةً بلا صوت، بلا ذاكرة. لكن الحرب، كما يلاحظ الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، هي لحظة تعليق القانون، حيث تتحول حياة الإنسان إلى “عريّ محض” (bare life)، خاضع للقتل أو الرحمة خارج أي محكمة.

عندما يُصبح التعاون قهراً

في الفلسفة السياسية، تشير المعضلة الاجتماعية إلى الحالات التي يُطلب فيها من الفرد اتخاذ قرارات أخلاقية في سياق يتعارض فيه البقاء مع المعايير الجمعية. من منظور لعبة السجين (Prisoner’s Dilemma) أو مأزق الأخلاق النفعية، تبدو خيارات مريم منطقية؛ إذا كانت سلطات الأمر الواقع هي قوات الدعم السريع، فإن الامتناع عن تقديم الشاي والقهوة قد يُفهم كتمرد، ويعرّضها وأطفالها للأذى.

لكن الفارق هنا أن لعبة مريم دموية وليست افتراضية، نهاياتها قاتلة. لم تُختر لها القواعد. لم تختر الخصوم. بل أُقحمت في صراعٍ لا يد لها فيه، ولم يُمنح لها حق الحياد. إنها تعبير حي عن المأزق الذي تحدث عنه الفيلسوف إيمانويل ليفيناس: “حين يُختزل الآخر إلى مجرد عدو، تفقد الأخلاق إمكانية الوجود”.

فتصوير مريم كـ”متعاونة” من قِبل السلطة المنتصرة (الجيش) يعكس آلية إعادة إنتاج القطيعة الأخلاقية التي تبرر العقاب بأثر رجعي. إنها عملية تحويل السياق إلى اتهام. ماذا كانت خياراتها حقًا؟ هل كانت تستطيع أن تمتنع؟ أن تهرب؟ أن تواجه بندقية الفصيل المسيطر بلا حماية أو مفر؟

بتحليلٍ ماركسي، يمكننا رؤية مريم كتمثيل للطبقة الكادحة التي تُستخدم دومًا كوقود لصراعات لا تملك فيها أدوات الفعل ولا أدوات الحماية. أما بمنطق ميشيل فوكو، فهي جزء من “أجساد يجب أن تُنظَّم وتُراقب”، وإذا خرجت عن النص المكتوب للسلطة، تُباد بصمت.

الذنب الموزّع

أين تبدأ المسؤولية وأين تنتهي؟ في فلسفة هانا آرنت حول “تفاهة الشر”، لم يكن المجرمون الكبار في التاريخ وحوشًا، بل بيروقراطيين مطيعين، لا يفكرون في تبعات أفعالهم. لكن آرنت تفتح باباً لفهم أن الشر يصدر عن نية عدوانية،ولكن أحيانًا عن نظامٍ يُجبر الأفراد على التصرف ضمن منطق لاأخلاقي باسم النجاة.

إذا كان الدعم السريع هو المجرم، فهل من يقدم له الشاي مذنب؟ وإذا كانت الدولة لا توفر حماية أو بدائل للضعفاء، فهل يمكن أن نلوم من يحاول أن يعيش؟ هل كانت مريم أكثر حرية من السجين المقيد؟ أم أن جرمها أنها عاشت خارج لغة الانتماء؟

منطق ما بعد العدالة – هل يمكن للرحمة أن تكون معياراً؟

إن قتل مريم فعل رمزي يمثّل الطريقة التي يُنظر بها إلى الأفراد داخل الحروب بوصفهم أدوات أو خونة، لا كذوات تعيش التمزق الإنساني بين البقاء والمبدأ. في مواجهة ذلك، يقترح الفيلسوف بول ريكور مفهوماً آخر،العدالة التأويلية — عدالة تراعي السياق، وتبحث لا عن العقاب بل عن الفهم، وعن سبل للصفح تعيد للضحايا إنسانيتهم ولا تلغي الحق.


أما مريم، فإنها القاعدة غير المرئية. وهي دعوة لإعادة التفكير في مآلات الحرب من زاوية الضحايا الصامتين،الذين لا يمسكون بالبندقية، ولا يمضون في مواكب النصر، بل يسقطون بلا شاهد، في نقطة التماس بين الجماعات المتصارعة.


رد واحد على “بائعة شاي – تُصلب أكثر من مرة”
  1. الصورة الرمزية لـ آدم أبوحازم
    آدم أبوحازم

    للأسف إن ما جرى و يجري في الساحة السودانية من إحتراب مفتعل و غاشم لا مبرر له ولا هدف، وهو أقرب إلى الفوضى العارمة، ودليل ذلك حالات الموت الرخيصة التي تواجهها صدور بريئة مثل مريم، تلك المرأة أو البنت التي خرجت تبحث عن لقمة العيش بيمينها، بدلاً عن أن تسقط في آسن الفعل و ظلامات المواخير، هي تريد أن تعمل في الفضاء المكشوف و في النور، تتكسب من عرقها و تسيغ حياتها بجهدها البدني لاغية بذلك لكل أسباب الترف و الحياة الناعمة، ولكن جزاءها موت في الطرقات و حرمان الحياة و بالتالي ينتج عن موتها ضحايا آخرين، القاتل لا يعلم عنهم شيئاً، ولا يهتم بالأساس لشأنهم وهي الكارثة، مريم تموت بقصد أو بغير قصد، أما أن تكون ضحية لإتهام السلطة لها بالتخابر و التعاون، أو بيد المدعو بالخارج عن القانون بذات التهمة، وهو موت مقصود،
    أما غير المقصود فهو بطلق ناري طائش أو سقوط قذيفة عليها وهي تحمل عنت المعيشة و تقدم الخدمة في هامش مهمش كل همها أن تعود منه بما يسد رمق أطفالها أو إخوتها و يسكت صراخهم،
    المبكي و المحزن هو عدم إكتراث الطرفين للفعل.. و للمفعول به، و عدم إحساسهم بما نقص أو إختفى من الوجود، وما يترتب عن إختفائه و غيابه الدائم من شتات لبقية أفراد الأسرة و العائلة و عدم كفالتهم أو تقديم رعاية ولو بقدر ما كانت تعود به الأم أو الأخت مريم من رزق، لا يفكر القاتل حرفياً في أي مآل لموت تلك المريمات الجزافي للأسف ، وليس لديه حلول من أية نوع لمثل هذه الكوارث والتي هي ليست في حسبانه، بمنطق أنه الآن يدير معركة من أجل الوطن، وينسى في غمرة ذلك أن مريم و أمثالها من الضحايا هم الوطن الحقيقي الذي كان من المفترض أن يُحْمٓىٰ من قِبٓلِه ، لا أن يقتل بدم بارد والله المستعان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *