امتلاك كُوَدْ (التُرْس) وصناعته ومراسم تدشينه عند قبيلة شلو (الشلك)

في معرض بحثي عما يسمى بـ ” كُوَدْ ” عند قبيلة شلو (الشلك) ، وجدتُ أن ما يقابله في اللغة العربية هو ما يسمى بـ ” التُّرْس ” ، والذي يعرِّفه معجم المعاني الجامع بأنه :” صفحة من الفولاذ مستديرة أو بيضية الشكل يُحمَل لوقاية الوجه والرأس ” ، أو ” ما يتوقى به في الحرب ” كما قد عرَّفه الإمام العلامة ابن منظور في سفره لسان العرب/باب التاء قائلاً: ” التُّرْسُ من السلاح ، المُتوقى بها. وفي اللغة الإنجليزية فإن ” كُوَدْ ” تقابله كلمة shield والتي يعرفها قاموس كامبريدج أنها:” جسمٌ عريضٌ مسطحٌ مصنوعٌ من المعدن أو الجلد حمله الجنود أمام أجسادهم لحماية أنفسهم ” .إذن ومن خلال ما ذكرتُ نستطيع أن نستخلص أن ” كُوَدْ ” عند قبيلة شلو هو جسمٌ يُصنَعُ من الجلد في شكلٍ بيضي أقرب إلى المستطيل يُحمَلُ لحماية الإنسان أثناء الحروب أو أية مبارزة يتم فيها استخدام آلات حادة ، وفي بعض المناسبات الخاصة.

و ” كُوَدْ ” عند شلو أنواعٌ عدةٌ تصنف وتُسمى حسب مادة الصُنع وهي أربعة أنواع :

أولاً: كُوُوَدْ فاار بمعنى تُرْس فرس النهر

ثانياً : كُوَودْ نيانق أي تُرْس تمساح

ثالثاً : كُوُوَدْ أُوقيق أي تُرْس جاموس

أما رابعها فهو كُوُوَدْ وِيْير أي تُرْس زَراف .

وهنا ينبغي الإشارة إلى أنَّ تُرْس فرس النهر وترس تمساح هما أكثر الأنواع استخداماً في الوقت الحاضر لسهولة الحصول على أفراس النهر والتماسيح التي توفر المادة الخام ، وقد ندر ترسا جاموس والزراف لندرة الحيوانين في الغابات التي تقع ضمن حدود مملكة شلو (الشلك) حالياً ، ويعود ذلك إلى الحروب الأهلية التي أنهكت البلاد حيث هاجرت أصناف كثيرة من الحيوانات وأصاب بعضَها الصيدُ الجائر ، كما نفق بعضها أيضاً بفعل انحسار الغابات .

يقوم بصناعة كُوَدْ (التُرْس) صناعٌ مهرة متخصصون في هذه الصنعة المميزة والتي تتخللها طقوسٌ يحتاج تتبعها طول أناة ، إلا أنني ولإثراء المقال حاولتُ أن أتبين بعضها كي نفوز ببضعة معلومات تعيننا في مضمار المعرفة والتثقف.

يبدأ صناعة كُوَدْ (التُرْس) بالحصول على المادة الخام الأساسية وهي جلد الحيوان – الجزء الذي في بطنه وليس ظهره _ والذي لن يكون سهلاً رغم توفر بعض الحيوانات قيد الطلب كفرس النهر والتمساح، ويرجعُ ذلك إلى أن هذه الحيوانات تُعَدُّ محمية بقوانين وأعراف مملكة الشلك وهي تقع مباشرة تحت سلطان ملك شلو (رَضْ)، والتعدي عليها يضع الشخص تحت طائلة الحكم، بحسبان أن هذه الحيوانات تعتبر حيوانات مقدسة ولا تُقتَل إلا بإذن من قِبَل السلطات بالمملكة. وبعد الحصول على الجلد يجفف ويحفظ في اللواك (الحظيرة) معلقاً في السقف إذ يتعرض لدخان روث الأبقار مدة طويلة ، ولا يُسلَم للصانع إلا بعد مرور حولٍ كامل ، والذي يأخذه إلى النهر ليتم وضعه في الماء ليستعيد مرونته فيؤتى به إلى مقام الصُنْع حيثُ يُثبت بأعواد خشبية على الأرض ويُشَد بعد أن يؤطر بمشرط ٍ خاص ٍ إلى الشكل المراد، يُزال عنه قطع اللحم والشحم الناتئة باستخدام قِطَع من الصخور الخاصة أو الأصداف ذات الملمس الخشن ، إذ يُعْمَل على الجلد لتنظيفه مصحوباً بإضافة قدراً من الرماد المتخلف من روث الأبقار . يستمر العمل لبضعة أيام حيث يُوضَعُ ” إيض ” بالقرب من مكان الصنع ، وهو عودٌ طويلٌ من الخيزران أو أية شجرة أخرى يُسنَّم بحشائش ناعمة رفيعة تُسمى ” ييج “ ، ويوضع هذا الـ ” إيض” مثبتاً في الأرض كراية ، علامة يستدل بها عابرو السبيل وخاصة صناع الأتراس والذين لن يمروا دون المشاركة في هذا العمل وفقاً للعُرف والعادة . ومن الآلات المهمة في صناعة الـ ” كَوودْ (التراس) ، مطرقة ٌخشبيةٌ تُسمى ” دِيْدِرِي ” Dediri وهي آلة أشبه بمطرقة قضاة المحاكم ذوات الرأسين إلا أنها أكبر حجماً منها بكثير ، وتستخدم لتشكيل كُوَدْ (الترس) بالطرق عليه بلطفٍ لا يقبل العجلة كيلا يفسد الجلد . يقوم الصانع بعمله نظير بقرة واحدة وهو عرفٌ متفق عليه في عموم المملكة .

عند انتهاء العمل يتهيأ صاحب التُّرس لاستلامه بتأليف أغنية للـ كُوَدْ خاصته والتي يجاهر فيها بالفخار لإمتلاكه هذه الأداة المهمة والتي سترقيه حتماً إلى مكانة أرفع بين أترابه، ويعبر فيها عن سعادته الجمة ، ويذكر فيها اسمه وكذلك الـ دِيْدِرِي مطرقة الصُنع وكل ما يراه واجب الذِّكر .

يحمل الصانعُ التِّرْسَ ويناور به أي يتحرك يمنة ويسرة وأماماً وخلفاً بحركات محسوبة متعارفٌ عليها ،ثم يضع التُّرْس َ على الأرض موجهاً وجه الترس الأمامي إلى الأعلى، إذ لا يُسلَّم يداً بيدٍ كما جرى العُرف والعادة، يرفع صاحب الترس تُرْسه من على الأرض من طرفه الأعلى مع إبقاء الجزء الأسفل ملامساً للأرض وهو يتعمد اخفاء جسده خلف الـ كُوِدْ ومن ثم يرفعه كُلِّياً، ويطفق في غناء أغنية الـ كُوِدْ خاصته تلك التي ألفها ، فيتقدم إليه الصانع حاملاً مطرقته أي الـ دِيْدِرِي ويوهمه بضربةٍ أولاً فيحتمي صاحب الترس بترسه ، عندها يقذفه بالـ دِيْدِرِي فينبري لها صاحب التُّرْس مبعداً إياها بأسلوب ينم عن جدية مفرطة ليؤكد للناظرين استحقاقه للـ كُوَدْ ، وبهذه الخطوات يتم تسليم الترس إلى صاحبه رسمياً ، والذي سيستمر في الغناء حاملاً ترسه جائلاً في كل بقاع القرية ، أما إن كان الترس قد صُنِع في منطقة أخرى فعليه دخول كل القرى على طول الطريق ، قرية تلو الأخرى مناوراً ومغنياً إلى أن ينتهي إلى قريته إعلاناً للجميع أن فلان بن علان قد امتلك كُوِد .

يُستخدَم كُوَدْ (التُرْس) كأداة للحرب ولأغراض أخرى كمراسم الدفن ومراسم تأبين الموتى وغيرها ، يُدهن الـ كُوَدْ (التُرْس) بالسمن البقري ويعرض لأشعة الشمس الحارة لصونه من الحشرات والرطوبة التي قد تفسده ، وينبغي أن يتم ذلك داخل سور البيت فقط ، إذ أن عرضه بصورة مكشوفة للمارة يعتبر إعلاناً للحرب .

لا يجوز لغير البالغ و البالغ الذي لم يُجْرَ عليه طقوس العبور من طور المراهقة إلى مرحلة البلوغ والنضج امتلاك كُوَدْ (التُرْس) قطعياً ، إذ يقتصر ذلك على الكبار أي الذين تم تأهيلهم إلى مرحلة الكِبَر بطقوس متعارف عليها .

وعندما يتوفى الشُّلُكِيُّ الذي يمتلك كُوَدْ (التُرْس)، يُخرَج الترس خاصته أثناء مراسم الدفن منذ اعلان الوفاة إلى أن يورى الثرى محمولاً من إحدى قريباته عند الإتيان بالماء الذي يُستخدم في التقبير ، وتتغنى النساء المصاحبات لها بأغنية كُوَدْ (التُرْس) التي قد ألفها صاحبه منذ التدشين والتسليم .

والجدير ذكره أنه ليس مسموحاً أن يؤخذ الـ كُوَدْ (التُرْس) إلى غير منزل صاحبه، إذ يعتبر ذلك تحريضاً سافراً لإرتكاب جريمة، أما إذا أتى أحدهم وأخذ الترس لوحده وارتكب جرماً ما به، فإنه يتحمل وزره لوحده ويتبرر صاحب الـ كُوَدْ (التُرْس).

هذا ما قد تمكنت مجتهداً في الحصول عليه من المعلومات المتعلقة بالـ كُوَدْ (التُرْس) عند قبيلة شلو (الشلك) المتواجدة في جمهورية جنوب السودان ، وينبغي الإشارة هنا إلى أن الباب سيظل موارباً أمام كل من يريد الإضافة أو التعديل أو التوضيح لتصل المعلومات واضحة ومكتملة غير ناقصة أو منقوصة .


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *