للكاتب: أيمن هاشم
ليلة الثاني والعشرون من آب – 1912 جلس خلف طاولة الكتابة، مسمراً ومُسنداً ظهره على كرسي خشبي، بين العاشرة ليلاً وحتى السادسة صباحاً يكتب بصورة متواصلة، محنياً جسده النحيل على طاولة الكتابة في الكراسة السادسة من يومياته، كان يقلب الورقات منتظراً شيئاً ما .
حين إنتهى فرانز كافكا من الكتابة سحب الكرسي للخلف وتناول دفتر يومياته، أخذ يدون :
بالكاد إستطعت سحب ساقيَ اللتين تخشبتا بسبب جلوسي المتواصل والطويل … ثمة إحساس وهو خليط من الإرهاق المخيف والسعادة الشديدة كانت تغمرني وأنا أرى كيف تطورت القصة أمام عيني، كأنني إخترقت شلالاً من المياه، مع تقدم الليل ولمرات عديدة أحسست بثقل يشد على ظهري؛ كيف يتجرأ المرء على أن يقول كل شئ، كيف يؤدي الأمر إلى كل هذه الرؤى المبهمة، يوجد نار تتقد، تتقد أكثر فأكثر فتأكل هذه الأفكار، ثم تعيدها للحياة مرات عديدة، عند شروق الشمس؛ عربة تمر و رجلان يعبران الجسر.
عند الثانية صباحاً وحين إجتازت الخادمة الممر لتطفئ المصابيح، بدأت الألام ضعيفة في صدري، الإستسلام للتعب. حينها قرأتُ بصوتٍ عالي دون أن أدري كيف عدوت تجاه غرفة شقيقاتي، كيف صحت بالخادمة: لقد إنتهيت من كتابتها. الكتابة والنوم لساعات معدودة قبل التوجه لمؤسسة التأمينات، أعتقد أنني سوف أطلب إجازة مرضية .
كانت ظهيرة يوم أحد ربيعي رائع، جورج بيندامان تاجر شاب، يجلس بالطابق الأول في إحدى المباني المحازية للنهر في شريط طويل، كان للتو قد إنتهى من كتابة رسالة لصديقه المقيم في خارج البلاد ، بهدوء ألصق المظروف، أخذ يحدق و هو يسند مرفقيه على طاولة الكتابة .. لنتساءل بشكل أوضح عن ما إذا كان من كتب القصة جورج أو فرانز كافكا الذي قال بعد شهر وبسذاجة في إحدى رسائله لفيليس باور: ” أن يظهر المرء بقصة امام الجمهور ليقرأها – بطريقة أو بأخرى – يترك الأمر شعوراً رائعاً، القصة محزنة موجعة في ذات الوقت، لكن لا أحد يفهم لماذا كنت أبدو سعيداً بينما أقرأ ” .
بعد سنة أحس بأن لقاؤه بفيليس كان بمثابة الشكر الذي ناله مقابل القصة، التي يدعوها قصته: كان لقائي بها بمثابة شكر غير مباشر على الحكاية، لكن جورج – بطل القصة -إستمر بالإنهيار بسبب خطيبته. مرت الأيام وفي رسالة لفيليس باور: هل بمقدورك إيجاد أي معنى لقصتك، أعني شيئاً واضح ومميز، أنا لا أستطيع إيجاده، حين جلست أكتب في ذلك الأحد الكئيب، كنت أرغب في الصراخ، دبرت وصف حدث من نظرات شاب عبر نافذة، يرى كيف يمر الناس عابرين الجسر أظن وقتها تكون ذلك الشيء.
هنا تنتهي قصة جورج المسكين وهو يفلت قبضته من على حافة الجسر، يصرخ ” والدي العزيز لقد أحببتك”، قبل أن يغوص جسده داخل النهر وتخنق المياه صدره، بعد خمسة سنوات يفسخ ك خطبته من فيليس باور بينما كان ماء الصدر يأكل رئتيه .
بعد مائة وثلاثة عام يستخدم كاتب شاب تكنيك التناص في كتابة قصة، يسميها الهروب ليحكي عن شاب يدفعه والده على الهروب، يبدأ في الكتابة :
الأحد، الرابع من نيسان، كما قرأ في التقويم المُعلق على الجدار، ليس يوم الإستقلال ولا حتى الميلاد أو عيد مقدس. كان التوقيت صباح يوم عادي، كان ” أ ” العاطل يجلس أمام باب المنزل على العتبة والتي نشر الظل عليها قميصه، بجوار تلك الحوائط غير المدهونة والتي تشبه بعضها.
كان ” أ” قد إنتهى للتو من إكمال سيجارته الصباحية، أطفأها على مهل، داسها بحذائه ثم راح متكئاً بمرفقه على ركبته، يوزع نظره على الشارع الإسفلتي و سيارات الترحيل و الماره على جانبي الطريق ..
راح يتذكر كيف كان ينظر للعالم أثناء دراسته الجامعية، كان طموحاً يرغب في دوام و راتب و عمل حكومي أو متجر.. لم يتغير سوى شعره الذي أصبح أبيض اللون وشاربه الكث الذي أخفى ملامحه الطفوليه.
هكذا أعد نفسه لما يراه مستقبلاً .
يواصل الكاتب قصته مانحاً شخصيته ” أ ” حرف إسمه الأول، حتى يصل لختام قصته:
شعر ” أ ” بأنه مطرود من المنزل، طفق ينتعل قميصه وحذائه، مر بالقرب من سرير والده بسرعة، بجانب صوت الراديو جاء صراخ والدته ” إلى أين ؟ “، لكنه صفع الباب بقوة وقبل أن يخرج والده كانت قد ساقته قدماه في الطريق المظلم ثم ركض كما كان في سباقات المدرسة دون أن ينتظرمن أحد أن يصفق له، كما كان يجري للدكان، أو بعد أن يحرز هدف، للحظة كانت أنفاسه تتقطع كانت أضواء المدينة السكنية تختفي، بنظرة أخيرة كانت كفيلة بأن ينسى رقم بيتهم، إسم أبويه.
بعدها بساعات أشرقت الشمس ينقصها لون ما، سرت حركة الأطفال إلى المدارس و أبواق سيارات الترحيل.
من غير مصادفة مدبرة يهدي الكاتب قصته لفتاة يحبها، يعلنها صراحة : لقد كنت بحاجة لذلك الكيان الشبحي و لو لفترة مؤقتة على الورق .
فماذا حدث في الحقيقة؛ كان بسبب أن كافكا صدق اللعبة وتحول لجورج الذي سقط في النهر، جورج تمكن من جسد كافكا وملأ رئيتيه بالمياه. لكن الورطة الحقيقية هي أنني من خلقت ” أ ” في قصة الهروب، جلبت لها ذلك الجسد الورقي وهيأتها فيه، في كل مرة أفتح فيها الباب للمغادرة والهروب لا أستطيع، ربما لأنني لست إلا شخصية ورقية .

اترك تعليقاً