تعتبر الحروب الحديثة إحدى الكوارث البيئية الكبرى، ليس فقط بسبب الخسائر البشرية والدمار العمراني، ولكن أيضًا بسبب التأثيرات المدمرة على البيئة والنظم الإيكولوجية.
سنقدم تحليلاً متخصصاً للأضرار البيئية المرتبطة بالحروب، انطلاقاً من النموذج السوداني لحرب أبريل وتأثير العمليات العسكرية على الموارد الطبيعية وحتى التحديات البيئية طويلة الأجل.
آثار مباشرة
- انبعاثات الغازات الدفيئة: تعتمد العمليات العسكرية على الوقود الأحفوري بكثافة، في تحريك المركبات العسكرية والمجنزرات مما يؤدي إلى انبعاث كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى. تشير الدراسات إلى أن (القوى المسلحة) على مستوى العالم مسؤولة عن 5.5% من إجمالي الانبعاثات العالمية، متجاوزة بذلك انبعاثات العديد من الدول.
- التلوث الناتج عن تدمير البنية التحتية:
- المنشآت الصناعية: يؤدي قصف المصانع ومحطات الطاقة إلى تسرب مواد كيميائية خطرة في الهواء والماء والتربة. خلال تحرير منطقة الجيلي شمال الخرطوم تسبب القصف في إنفجار مستودعات تحتوي على البترول، مما أثر على جودة الهواء في المنطقة المجاورة للخرطوم وأمدرمان وإمتدت السحابة المحملة بالغازات الضارة لتصل مدينة الأبيض.
- الحوادث الكيميائية: إستخدام البراميل المتفجرة المحتوية على مواد كيميائية مثل غاز الخردل يؤدي الى موت الحيوانات والنباتات.
- الألغام والذخائر غير المنفجرة: خلفت الحرب كميات هائلة من الألغام والذخائر غير المنفجرة في مناطق مثل شمال الخرطوم وجنوب نهر النيل مما أدى الى تلوث التربة والمياه. المواد الكيميائية والمعادن الثقيلة التي تحتويها هذه الذخائر تسبب تلوثًا طويل الأمد يهدد البيئة والصحة العامة، ويؤثر على إستخدامات الأراضي.
- التدمير المتعمد للموارد الطبيعية: في بعض الحالات، تُستخدم الأسلحة لتدمير الأراضي الزراعية، مثل حرق المحاصيل أو تلويث الآبار والأنهار كجزء من “سياسة الأرض المحروقة”. هذا التكتيك لا يضر فقط البيئة، بل يُعرض المجتمعات المحلية لخطر الجوع وفقدان مصادر رزقها.
التأثيرات غير المباشرة للحروب
- إزالة الغابات والاستخدام غير الرشيد للموارد:
- خلال الصراعات، يلجأ السكان إلى قطع الأشجار بشكل مكثف لاستخدامها كوقود للتدفئة والطهي. كما تستغل الجماعات المسلحة الانهيار الإداري في استخراج الأخشاب والمعادن بشكل غير مستدام، مما يؤدي إلى تفاقم التدهور البيئي.
- مثال ذلك، التعدين غير القانوني للمعادن النادرة مثل والذهب في منطقة نهر النيل، حيث تسبب استخدام الزئبق في استخراج الذهب في تلوث واسع للمجاري المائية، وإنتشار السيانيد خلال فترة الامطار وتسربه للتربة الداخلية من مخلفات التعدين (الكرتة) والى نهر النيل.
- النزوح الجماعي وتأثيره البيئي:
- مخيمات اللاجئين تفرض ضغوطاً بيئية هائلة، خصوصًا في حال افتقارها للخدمات الأساسية كإدارة النفايات والصرف الصحي. كما يُجبر السكان في بعض الأحيان على استخدام الموارد المحلية مثل أخشاب الأشجار البرية (المسكيت والأكاسيا) بشكل مكثف، مما يؤدي إلى استنزافها.
- على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي تكدس السكان النازحين في المدن إلى زيادة الطلب على المياه والكهرباء، ما يسبب ضغطاً إضافياً على الخدمات. وعلى سبيل المثال مشكلة النفايات التي تتراكم في مدينة بورتسودان التي خلف ضغط النزوح عليها ضغطاً إضافيا على البنى التحتية للمدينة.
- إدارة النفايات : غالبًا ما تنهار أنظمة إدارة النفايات خلال الحروب، مما يؤدي إلى تراكم النفايات وحرقها في أماكن غير مخصصة لذلك. ينتج عن ذلك تلوث الهواء والتربة، ويزيد من مخاطر الأمراض.
الآثار البيئية طويلة الأمد
- تدهور التربة وانهيار الزراعة: تُخلف الحروب أضراراً جسيمة على الأراضي الزراعية من خلال التلوث بالمعادن الثقيلة والمواد الكيميائية، ما يؤدي إلى فقدان الإنتاجية الزراعية لعقود. كما يؤدي الإفراط في الزراعة من قبل النازحين إلى استنزاف خصوبة التربة.
- إعادة الإعمار والضغط على الموارد:
- مشاريع إعادة الإعمار تتطلب كميات هائلة من المواد الخام، ما يضع ضغوطاً إضافية على الموارد الطبيعية. إعادة البناء في المناطق الحضرية تتطلب أيضًا إزالة الأنقاض، والتي قد تحتوي على مواد خطرة مثل الأسبستوس والذخائر غير المنفجرة، ففي مدن مثل مدينة الخرطوم تتداخل المناطق السكنية بمحازاة مكبات النفايات.
- كما أظهرت الأبحاث زيادة ملحوظة في معدلات إزالة الغابات في الدول الخارجة من النزاعات نتيجة الزراعة التوسعية، كمقابل لصفقات إعادة التعمير- منح دول أخرى مشاريع زراعية بصورة غير مدروسة، وتناقص مخزون المياه الجوفية في تلك المشاريع.
- فقدان التنوع البيولوجي:
- تُسبب الحروب اختلالات كبيرة في النظم البيئية، بدءًا من زيادة الصيد الجائر للحيوانات البرية إلى تدمير الموائل الطبيعية. على سبيل المثال، سهّل توفر الأسلحة الصغيرة من مناطق النزاع عمليات الصيد غير المشروع للحيوانات النادرة.
يمكن القول أن إنتشار السلاح يظل عامل مشجع للصيد الصائر، مع العلم ان هناك حيوانات برية مهددة بالانقراض مثل الوعل النوبي.
- تسببت الحرب بنمو الأشجار البرية في الخرطوم بكثافة كمحاولة منها لإسترداد مناطق نموها، تتميز نباتات السافنا الفقيرة بقدرتها الضعيفة على تعويض حالات إنحسارها، سيشكل مشروع إعادة تعمير الخرطوم تحدياً وضغطاً على موائل تلك النباتات.
- تُسبب الحروب اختلالات كبيرة في النظم البيئية، بدءًا من زيادة الصيد الجائر للحيوانات البرية إلى تدمير الموائل الطبيعية. على سبيل المثال، سهّل توفر الأسلحة الصغيرة من مناطق النزاع عمليات الصيد غير المشروع للحيوانات النادرة.

صورة مُتخيلة بواسطة الذكاء الإصطناعي
فرص الاستدامة وإعادة البناء
رغم الآثار الكارثية للحروب، يمكن أن توفر بعض الظروف فرصة لإعادة التفكير في التنمية المستدامة. تشمل هذه الفرص:
- إعادة تخطيط الخرطوم و التركيز على البناء الأخضر: يمكن استغلال مشاريع إعادة الإعمار لبناء مدن صديقة للبيئة وتعزيز البنية التحتية المستدامة.
- التعاون البيئي: الموارد الطبيعية المشتركة يمكن أن تشكل أساساً للحوار والسلام بين الأطراف المتصارعة، بحل مشاكل الموارد للوقاية من النزاعات في دارفور.
تُمثل الحروب كارثة بيئية عابرة للحدود، حيث تُسهم في تدمير التربة والمياه والهواء، وتفاقم أزمة المناخ. معالجة هذه التأثيرات تتطلب تكاملاً بين سياسات الحوكمة البيئية، ودعم إعادة الإعمار المستدام، والالتزام العالمي بحماية البيئة خلال النزاعات وبعدها.
إن العمل على تحسين الوعي البيئي وفرض قيود صارمة على الأنشطة العسكرية المدمرة للبيئة لضمان عدم تكرار النزاعات في المستقبل يُعتبران خطوتين أساسيتين للحد من هذه الآثار.
اترك تعليقاً