للكاتب : أ. محمد مصطفى النور
النشاط الاجتماعي للجالية اليهودية والتماهي في الذات السودانية
لم يعرف السودان جيتو خاصاً باليهود كما كان حالهم في معظم أنحاء العالم، وإن كان لهم تجمعات سكانية مثل سكنهم في حي المسالمة وحارة اليهود بأم درمان وحي أبو صليب بالخرطوم. وكان معظم اليهود من الطبقة الغنية أو المتوسطة الدخل ، بالإضافة لنيلهم حظاً طيباً من التعليم، مما مكنهم من الاحتكاك مع صفوة المجتمع السوداني في ذلك الوقت من كبار التجار وأثرياء ووجهاء الخرطوم وزعماء الطوائف والمثقفين والبيروقراطية السودانية الناشئة، وإقامة العلاقات الحميمة معهم.
وقد تأسست العلاقات بين اليهود والسودانيين على اليهود الذين عاصروا الدولة المهدية، والحرفيين، وصغار التجار ومتوسطي الدخل، و “المسالمة”، واليهود المتخفين. ولعل الارتباط البيولوجي الذي فرضته المهدية بإجبار المسلمانية” على الزواج من سودانيات، كان أساساً للتواصل وترابط العلاقات بين اليهود والسودانيين. ومن أنصع الأمثلة على هذه الارتباطات زواج سليمان ماندل “منديل” من سودانية، وقد أقام ماندل بمدينة الأبيض وأنجب أبناء سودانيين، وعرف ابنه داؤود بنشاطه الصحفي الواسع.
وبالجملة فقد كما اهتم داؤود منديل بالتراث السوداني فكان أول من نشر الدوبيت السوداني وراتب الإمام المهدي، وطبقات ود ضيف الله. لم تكن بالسودان صحيفة غير جريدة حضارة السودان، وقد شجعت على قيامها الحكومة ومنحت امتيازها للسادة الثلاثة: عبد الرحمن المهدي، على الميرغني، والشريف يوسف الهندي ، وكانت جريدة شبه رسمية تعبر عن رأي حكومة السودان.
فكان أن ابتدر داؤود منديل إنشاء جريدة ملتقى النهرين ، والتي نشرت الرواد الحركة الوطنية في السودان.
أصبح نسل سليمان منديل سودانيين عاطفة وانتماء، وبذلوا لأجل هذا الانتماء كل ما وسعهم.
ومن الأمثلة الساطعة لتفاعل اليهود مع الحياة السودانية أسرة التاجر البغدادي إسرائيل داؤود بنيامين، وقد تزوج في العهد المهدوي من سودانية، وأنجب منها أحد رواد الحركة الوطنية وأحد طلائع المسرحيين في السودان وهو السيد إبراهيم إسرائيل الشهير بإبراهيم إسرائيلي.
انتخب السيد إبراهيم إسرائيل في أول لجنة لنادي الخريجين وكان من المساهمين نظرياً في تأسيس هذا النادي. وعلى الرغم من أن رئاسة هذا النادي الفخرية كانت للسيد سامسون، نائب مدير المعارف الإنجليزي، إلا أن تشكيل أعضاء اللجنة يعكس الوجهة الوطنية للنادي ؛ فقد ضمت اللجنة بجانب إبراهيم إسرائيل عدداً من رواد الحركة الوطنية منهم الشيخ أحمد عثمان القاضي السيد محمد الحسن دياب السيد الدرديري محمد عثمان، وآخرون.
ومن اليهود الذين التحقوا بركب الحركة الوطنية في السودان طالب كلية غردون الشاب ديمتري البازار ، الإغريقي الأب وينحدر من جهة والدته من أصل يهودي نمساوي وهو حفيد سلاطين باشا ، وقد فصل من الكلية بعد الاحتجاجات والمظاهرات التي نظمها وقام بها طلاب كلية غردون عام ۱۹۱۹ تضامناً مع ثورة سعد زغلول في مصر.
وشارك رأس المال اليهودي في دفع مسيرة الحركة الوطنية، فتشير بعض المصادر إلى أن إسحق إسرائيل قد تبرع من ماله لإنشاء نادي الخريجين كما تبرع حبيب كوهين عبر شركته مع عثمان صالح لإنشاء السينما الوطنية التي أصبحت أول شركة مساهمة عامة سودانية.
وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من يهود المهدية ارتدوا عن الإسلام إلا أن الانتماء الديني لم يقف عثرة أمام الارتباط البيولوجي، أو تمتعهم بالهوية السودانية، فاحتفظوا بهذا الرابط وأنشأوا من فوقه العلاقات الاجتماعية التي تعززه وتنميه. ويبدو أن معظم هؤلاء المندمجين قد اختاروا مفارقة الدين اليهودي، أو كانوا من اليهود العلمانيين إذ تحرم اليهودية الزواج بين اليهود وغير اليهود، بل تعتبر أن مثل هذا الزواج هو فجور وزنا مستمرين، ويعتبر الأولاد الذين يولدون من هذه المعاشرة “المرذولة” أبناء زنا.
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه ما تعرض له أبناء إسرائيل داؤود بنيامين حيث رفض اليهود السماح لهم بالصلاة في المعبد اليهودي لأنهم لا ينحدرون من أم يهودية، وقد تمسك أبناء إسرائيل بحقهم في الصلاة في المعبد حتى وصل الأمر إلى حد التشاجر بالأيدي. وقد انتهى الأمر بأن أعلن الابن الأكبر لإسرائيل تخليه عن الدين اليهودي والتحاقه بالإسلام، وتبعه أخوته في ذلك.
وقد نبه شوقي بدري في كتاباته عن مدينة أم درمان إلى فضل بعض العائلات والأسر اليهودية وشرح تعاطيها العميق مع الحياة السودانية بعاداتها وتقاليدها، وتحدث عن العديد من الزيجات الطوعية التي تمت بين السودانيين واليهود، ومن أشهرها زواج محمد الفضل، أول مدير سوداني لمصلحة السكة الحديد من السيدة وردة إسرائيل، وزواج إسحق إسرائيل من كريمة محمد عبد الرحيم، المؤرخ السوداني الكبير . وقد أسفرت معظم هذه الزيجات عن أسر ناجحة وأبناء متعلمين.
ولعل اليهود قد نجحوا في محاولاتهم للتماهي في الهوية السودانية إذ لم يقع بين أيدينا ما يفيد بتطرف تجاه اليهود في السودان طوال هذه الفترة. إلا من بعض الدعاوي التي تبنتها بعض الجماعات المتضررة من ازدهار الوضع الاقتصادي لليهود.
ويمكننا أن نفهم مدى هذا التماهي، إذا علمنا أن يهود السودان يكونون في مهاجرهم روابط ليهود السودان، ويؤمون المنتديات والحفلات والأماكن إلى يرتادها السودانيون، ويسارعون الصالات المطارات لاستقبال السودانيين ويبالغون في الاحتفاء بهم، ويمارسون العادات السودانية في الطعام والزواج. ويحكي شوقي بدري عن حفل عرس يهودي ضخم بفندق هيلتون بتل أبيب جرت مراسمه على الطقوس والتقاليد السودانية.
سلسلة مقالات من كتاب النشاط الإقتصادي والإجتماعي للجالية اليهودية في السودان (1899-1956)م – للكاتب : أ محمد مصطفى
اترك تعليقاً